لبنان محكوم بتحديات أخطر من حرب أهلية
بقلم: رفيق خوري

النشرة الدولية –

حرب لبنان الطويلة لم تنتهِ باتفاق الطائف في خريف 1989، بل تحولت حرباً باردة. وهي على نوعين متداخلين: “حرب عصابات سياسية” بين القوى المحلية في الصراع على الحصص في السلطة، وحرب شاملة للسيطرة الإقليمية على البلد. الفصل الأول من الحرب الشاملة وهو طموح إسرائيل للهيمنة على لبنان ورهان سوريا على السيطرة، انتهى بانسحاب إسرائيل من الجنوب عام 2000 بعد انسحابها من معظم لبنان عام 1984 وسقوط “اتفاق 17 مايو” (أيار)، ثم الانسحاب السوري عام 2005 بعد “ثورة الأرز”. والفصل الثاني الذي بدأ ولم ينتهِ بعد، هو تخطيط “حزب الله” المرتبط أيديولوجياً بإيران، التي أنشأته وتموّله وتسلحه، للسيطرة على لبنان في إطار المشروع الإقليمي الإيراني، مشروع “الولاية”. وهو تمكن حتى الآن من السيطرة على الرئاسة والبرلمان والحكومة، وبقي أن يسيطر على القضاء، بحيث يتحكم القدر بالقضاء. فالكل يتحدث من دون نقاش عن “فائض القوة” لدى “حزب الله” الذي صار جيشاً يحارب في سوريا، ويقوم بأدوار إقليمية أخرى إلى جانب دوره المحلي. لكن من الوهم الكلام على أقوياء في بلد ضعيف ومفلس. فقوة “حزب الله” هي في جزء منها قوة سلاحه الذي لا يستطيع استخدامه بالكامل، وفي جزء آخر ضعف الآخرين في مواجهته. وليس ما حدث أخيراً في لعبة خطرة وخطيرة داخل السلطة وفي الشارع سوى دفع لبنان المأزوم، بقوة الطرف القوي الخائف، إلى مأزق يصعب الخروج منه.

 

ذلك أن “حزب الله” أوحى أنه يعرف ماذا في ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت أمام قاضي التحقيق العدلي طارق البيطار من معلومات، ويخاف من إعلانها في قرار ظني ثم من المحاكمة أمام المجلس العدلي. ولذلك دفعه ما يشعر به من حرج الى إحراج حلفائه في السلطة بالطلب منهم تغيير المحقق العدلي. وهم حائرون، يخافون من تلبية الطلب كما يخافون من الرفض. فالسيناريو يتكرر بشكل أو بآخر. بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وقف “حزب الله” بعنف ضد التحقيق الدولي في الجريمة والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان. حاول شل الحكومة، وقام بمحاصرة السراي الحكومي و”احتلال” الوسط التجاري باعتصام شعبي طويل، لكنه فشل في “شيطنة” المحكمة الدولية وإجبار رئيس الحكومة فؤاد السنيورة على التراجع. ثم نجح بفرض الفراغ الرئاسي ودفع الآخرين إلى تقديم التنازلات له في “اتفاق الدوحة”. واليوم يهاجم المحقق العدلي ويتهمه بالعمل لمصلحة “مشروع أميركي ضد المقاومة”، ويقرر النزول إلى الشارع ويشل السلطة. لكن الانطباع الراسخ لدى الناس حول مسؤوليته، كان أخطر بكثير مما تخوف منه في المحكمة الدولية التي أدانت متهماً واحداً من أعضائه على دوره في الجريمة. والإلحاح حالياً على تطيير التحقيق الجدي في تفجير المرفأ يجعل الانطباع عند الناس أكبر بكثير مما قد يظهر في التحقيق والقرار الظني والمحاكمة.

وليس هذا كله سوى حلقة في مسلسل عنوانه تكريس لبنان جبهة أمامية في “محور الممانعة”، وتغييره ليصبح جزءاً من المشروع الأمبراطوري الإيراني. والحلفاء محرجون في هذا الإطار أكثر مما هم محرجون في موضوع قاضي التحقيق، والنزول إلى الشارع والاشتباك المسلح الذي حدث في بيروت. فالسيد حسن نصر الله يقود قطاراً ذاهباً من بيروت إلى طهران، وركاب القطار من قوى الثامن من آذار بقيادة “حزب الله” ليسوا مستعدين جميعاً للذهاب إلى النهاية في الرحلة. بعضهم يتصور أنه يستطيع النزول من القطار على الحدود اللبنانية-السورية، وبعضهم الآخر يكتفي بالذهاب إلى دمشق، والباقون لا يمانعون الوصول إلى طهران. فالكل يعرف أن مسار القطار مرتبط بمصير المنطقة الممتدة من إيران على الخليج إلى البحر المتوسط كما إلى البحر الأحمر. والمصير ليس في يد إيران وحدها ومعها “حزب الله”، بل أيضاً في أيدي تركيا وإسرائيل وأميركا والصين وروسيا التي صارت جارة لبنان في سوريا.

وليس أخطر من دفع لبنان نحو حرب أهلية من جديد سوى الحكم على لبنان المأزوم بالفقر والعزلة من أجل مشروع إقليمي، لا أحد يعرف كيف يخرج من أيدي اللاعبين الكثر. ولا أصعب من أن يسيطر “حزب الله” على لبنان من دون حرب سوى أن يربح في حرب أهلية يستحيل أن يربحها أي طرف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى