شويكه سيدة الحكايات – 12 أحلامنا
بقلم: كتب الدكتور سمير محمد ايوب

كتب الدكتور سمير محمد ايوب

النشرة الدولية –

كانت تُحاصرنا، أبناء جيلي وأنا،  وقائع كثيرة مؤلمة. كان كل شيء من حولنا فقيرا ، إلا قلوبنا وأرواحنا وطموحاتنا وإراداتنا، كان حدُّها السماوات العُلا. لم نَحبِس شيئا منها مع قلة ملامحها. فُرادى، لم نكن نُحسِن الإبحار بين تضاريس تلك الوقائع، ولا تلك الاحلام. لذا لم نَسجن أنفسنا في عزلة بائسة أو أنيقة.

كنّا نُدرك إلى أين نريد أن نصل، كنّا نبحث عن أحسن السبل للوصول، لم تكن أيّ طريق تفي لنا بالغرض.  إنفَتحنا على واقعنا الأصغر وتقاطعاته العربية الكبرى، بحثا عن الحقائق فيما حولنا من وقوعات.

تقلّبْنا في حواضن فكرية، ومدارس سياسية، وأطر تنظيمية مُتعدده، دون أن نفهم كثيرا. فما كان في الأفق آنذاك سواها. كنّا ندرك أن وجودنا بلا أحلام، مُنتمية للوطن ليس له معنى. شَرّقنا وغرّبنا في ساحات الحوار والجدل والمُماحَكات، على غير هُدى وبلا تخطيط، سوى صدق النوايا وعزم الشباب، وبوصلة تحرير ما اغتُصب من  فلسطين.

لامَسنا الفكر الليبرالي، والأيديولوجيا البلشفيه، والاشتراكية الفابيه. وانغمسنا في الفكر القومي بكلِّ تفرّعاته ومدارسه، والموروت الديني الجِهادي ، والتَّقَوقُع الوطني الممعن في محليته وقطريته.

حاورنا ساطع الحصري، عبر ميشيل عفلق وجورج حبش وأنطون سعاده. وقاربنا ماديّة إنجلز وجدلياته، عبر ماركس ولينين وستالين وماو وتروتسكي وبكداش. وكانت لنا صولاتٌ وجولاتٌ مع المخزون الهائل من الاسلام الجهادي، عبر تقي الدين النبهاني وأحمد الداعور وحسن البنا وسيد قطب، وغيرهم من تابعين وتابعي التابعين وتلاميذ، ولصوص وشذّاذ آفاق فكريه.

بَحثاً عن بدايات طرق ومعارج إلى أحلامنا بوطنٍ مُحرّر، دلَفْنا بواباتِ وشبابيك كلّ الحركات والأحزاب والمُنظّمات والتّنظيمات والدكاكين والبَسطات، الدولية والعربية والفلسطينية. حاورناها في كل ما كانت تتكأ عليه، من مخزونِ وموروثات الفكر الانساني في كل مكان. حاول بعضها استنساخ ذاك المخزون الفكري وتبنيه، فجَّاً كما هو، وتارة احتوائه مُسْتَنْسَخا مُعدّلا، ومرّاتٍ أخرى حاولَتْ تَدجينه ولَيَّ عُنقه، والانتقاء منه بعشوائية،  تتوافق مع هواها المُتحرك كبندول ساعة حائط.

إنغماسنا في البحث عن أفضل البرامج والسبل والأدوات والمواقيت، التي نُحرّر بها ما كان قد اغتصب من فلسطين، ساقنا إلى نقدِ هذا، وتسفيهِ ذاك، ولعنِ ثالث،  والتأفُّفِ منْ رابع، والتصفيق لخامس، والعشق المُتَنقل الرجراج لسادس.

تعثّر الكثيرُ مِنْ أحلامنا، وبعضها سقط سقوطا مدويا. بعضها انتفَض ونفَض عن مشاريعه الغبار، ونهض مُكمِلا مِشواره.

عِشنا أمجادا ملأتْنا نشوة. طَردُ عنوان الفساد في مصر فاروق. فشل العدوان الثلاثي على مصر في تحقيق أيٍّ من أهدافه المُعلنه. تم تحرير الجزائر وجنوب اليمن. تحققت أول وحدة عربية معاصره بين سوريا ومصر. خلَت الأراضي العربية من الظلال السود ( ولو شكليا وظاهريا) من القواعد الأمريكية الاستعماريه. نهوض الشعب الفلسطيني عبر منظمات متعددة، لممارسة العمل المسلح، لتحرير ما كان قد اغتصب من ارضه. شهدنا ملحمة الكرامة وهي تطرز بدماء بواسل الجيش العربي الأردني وفي مقدمتهم البطل القائد مشهور حديثه، والمناضلين الفلسطينيين، وسحق عدوان اسرائيلي على ارض الاردن.

إكتوينا بالمقابل، بأوجاع هزائم وكوارث متتالية، بعضها ساحق ماحق،  جاء احْتلالٌ على خُطاه، ومن ثقوب بعضها تسلّلت حروب محلية،  نقشت بصمات الخراب النفسي،  شواهد على عبورها المقيت، وبعضها مُتلعثم . مُهشِّمة لشيء من أحلامنا ، ما كنا نتمنى أن نكون قد عشناها، إنتصرَت العشيرة والقبيلة السياسية والحزبية الضيقة على بلدانها، تنظيمات وعشائر وقبائل سياسية،  خذلت أوطانها ولم تنتصر لها، بل استعملتها سلالم لمصالحها.

شاعت عبادة الفردانية وتقديس الشمولية، وتعطيل المؤسسات، وحياكة الدسائس  لتمزيق أردية البلاد، والحط من حقوق العباد وكراماتهم، جريمة انفصال تجربة الوحده، هزيمة 67، اكتمال اغتصاب فلسطين وضياع الاقصى، واحتلال أراضٍ عربية أخرى غير فلسطين. عما جرى ويجري في لبنان والعراق وليبيا والصومال واليمن من اقتتال داخلي غير مفهموم، حدث ولا حرج. وبالطبع ما سبق كل ذلك من اقتتال فوضوي في الاردن عام 1970، بين النظام والمنظمات، وعرف في حينه باسم ايلول الاسود.

تحايَلنا على منظومات أحزاننا، وخيبات آمالنا بعفوية وبعذرية متميزه. حرصنا بلا انفصام، على ان لا تنهزم قلوبنا وعقولنا وأرواحنا. لنتحرر من ضغوط خيباتنا تلك ، خبأناها في جهود متصلة، للمشاركة في عمليات ترميم عامة، بعيدا عن ذواتنا الفرديه.

لم يرتح لنا بال حتى الآن، ولم تهدأ لنا همّة. لم تزل الهموم على عهدها، منذ أكثر من سبعين عاما، تعشق فلسطين كجزء من الوطن العربي الكبير، وتوقظ الحنين لأهلها كجزء من امة العرب.

وقد تجاوزنا ما تجاوزنا من وقائع،  ومن وقوعات مؤلمة على الأرض، بعضها بالتأكيد مشبوه المحتوى أو الأدوات أوالمواقيت. في كل تلك السنوات، سافرنا كثيرا بعيدا وقريبا،  حرصنا على أن لا نتغير كثيرا فيما نملك، وتغيرنا كثيرا في الشكل،  ولكننا لم نصبح أشخاصا أُخَر.

لا نزال بحميميّة أصيله نُصادق طفولتنا وصبانا وشبابنا. لم نعرف اليأس،  وإن الَمّ بنا بين الفينة والاخرى شئ من التشاؤم العابر.

لاننا نحب أحلامنا، ونحرض على أن لا تشيخ معنا يوما ما، لن نكف عن الحلم بها/ أقول وعيوننا تلمع بأحلام سنُبقيها شابة طازجه نشطه: إنّ في داخل كلٍّ مِنا لا زال وطن خاص، يحتمي في حناياه. لكلٍّ مِنا طُرُقا يسلكها إليه وفيه. ولكن حبل السرة في هذه العلاقة القومية، يبدء من هناك وينتهي هناك، في مكان ما في فلسطين القضية، من بحر يافا وجبال الجليل ورمل غزة وأول الماء في الاردن. مع كل ربيع تنبت لأحلامنا أوراق جديده، تكاد تغطي وجه السماء. ولن  نلتفِتَ كثيرا أو مُطوّلا ،  إلى ما قد يسقط منها، لأيِّ سببٍ على الأرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى