تراجع إيراني في اليمن… ومراجعة اميركيّة
بقلم: خيرالله خيرالله
النشرة الدولية –
طرأت في الايّام القليلة الماضيّة تطورات في غاية الاهمّية على المشهد اليمني. ليس مستبعدا ان تكون لهذه التطورّات ابعاد على الصعيدين الإقليمي والدولي، كذلك في الداخل اليمني نفسه. لم تعد مدينة مأرب مهدّدة بسقوط وشيك على الرغم من حصار الحوثيين (جماعة انصار الله) لها من جهات عدّة. لم تعد ايران في وضع يسمح لها بالذهاب الى مفاوضات في شأن ملفّها النووي مع الإدارة الاميركيّة في فيينا وهي تحمل ورقة مدينة مأرب. كان يمكن لمثل هذه الورقة ان تسمح لإيران بتأكيد انّها استطاعت إقامة كيان سياسي قابل للحياة في شمال اليمن، عاصمته صنعاء.
يمتلك هذا الكيان، من الناحية النظريّة، القدرة على ان يكون دولة مستقلّة ذات وجود على البحر الأحمر عن طريق ميناء الحديدة وثروات كبيرة في ضوء ما تمتلكه مأرب. الاهمّ من ذلك كلّه، سعي ايران، عبر وجود كيان حوثي في شمال اليمن، الى اثبات انّها باتت جزءا لا يتجزّأ من شبه الجزيرة العربيّة. تماما كما اوجد الاتحاد السوفياتي، السعيد الذكر، في الماضي موطئ قدم له فيها. كان ذلك عن طريق وضع اليد على النظام في اليمن الجنوبي وتحويل “جمهوريّة اليمن الديمقراطيّة الشعبيّة” مجرّد امتداد للاتحاد السوفياتي وسياساته.
يبذل الحوثيون، أي ايران، منذ اشهر عدّة جهودا ضخمة من اجل وضع اليد على مدينة مأرب. لا تأبه ايران بعدد القتلى الحوثيين الذين يسقطون في مأرب وغير مأرب، طالما ان المطلوب تحقيق انجاز يصبّ في مصلحة “الجمهوريّة الاسلاميّة”.
لكنّ التحولات الأخيرة في سير المعارك توحي بتغييرات كبيرة. قد يكون ابرز هذه التغييرات بداية ظهور وعي أميركي لما هو على المحكّ في اليمن والنتائج المترتبة على توجه بدأ برفع الحوثيين عن قائمة الإرهاب الأميركية. سارعت إدارة جو بايدن بعيد دخول الأخير الى البيت الأبيض الى رفع الحوثيين عن قائمة الإرهاب الاميركيّة. ظنت انّ ذلك سيسهل جلوس “انصار الله” إلى طاولة المفاوضات من جهة والمشاركة في التوصل الى تسوية توقف المعارك في اليمن من جهة أخرى. ستظهر الايّام القليلة المقبلة مدى عمق التغيير في الموقف الأميركي وما اذا كان هناك وعي لخطورة المشروع التوسّعي الإيراني. بكلام أوضح، ستظهر الايّام القليلة المقبلة ما اذا كانت واشنطن بدأت تعي ان المشكلة مع “الجمهوريّة الاسلاميّة” ليست في رغبتها في الحصول على السلاح النووي فحسب، بل ان البعد الحقيقي للمشكلة يكمن ايضا في سلوكها خارج حدودها وفي الصواريخ الباليستيّة والطائرات المسيّرة التي تنشرها ايران في المنطقة. في سوريا ولبنان والعراق واليمن… وفي غزّة أيضا. وكانت هذه الطائرات المسيّرة وراء القرار البريطاني القاضي بإعلان “حماس” حركة ارهابيّة في ضوء “امتلاكها قدرات ارهابيّة واضحة”.
ثمّة تغيير آخر في غاية الاهمّية أيضا على الصعيد اليمني. يتمثّل هذا التغيير في تحوّل حرب مأرب الى حرب استنزاف بين الحوثيين والاخوان المسلمين ممثلين بحزب التجمع اليمني للإصلاح الشريك الأساسي في “الشرعيّة”. انتقل الإصلاح، الذي يسيطر على معظم القوّات التابعة لـ”الشرعيّة”، من موقف الرافض لزج مزيد من القوات في معركة مأرب الى طرف يعتبر نفسه في معركة ذات طابع مصيري. ثمة من يرى ان التحالف العربي، الذي يبذل جهودا كبيرة من اجل منع سقوط مدينة مأرب، دفع في الاتجاه. في كلّ الأحوال، إنّ تحول معركة مأرب الى حرب استنزاف طويلة بين الحوثيين والاخوان المسلمين يبدو امرا مفيدا. إنّها حرب بين طرفين مستفيدين من استمرار المأساة اليمنيّة بعدما عقدا اتفاقات من تحت الطاولة في ما بينهما.
يبقى ان من بين ابرز التغييرات الأخرى في اليمن، دخول قوات جنوبيّة وأخرى شماليّة بقيادة طارق محمّد عبدالله صالح على خط الدفاع عن مأرب. انتقلت هذه القوات من محيط الحديدة ومن مواقع أخرى في الجنوب الى جبهات مأرب. يعني ذلك أنّ هناك وعيا جنوبيا لخطورة سقوط مدينة مأرب. فسقوط المدينة سيفتح الأبواب امام توغل حوثي في المحافظات الجنوبيّة عبر محافظة شبوة. لا يريد الجنوبيون العودة الى الوحدة أصلا. بات مشروع الوحدة اليمنيّة مشروعا فاشلا منذ ما قبل سقوط علي عبدالله صالح، فكيف اذا كان الحوثيون، الذين لا يمتلكون أي مشروع سياسي او اقتصادي او حضاري من أي نوع في في صنعاء؟ ليس لدى الحوثيين ما يقدمونه سوى التخلّف والجهل والشعارات البالية مثل صرختهم المعروفة “الموت لاميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”. هل تطعم “الصرخة” اليمنيين خبزا وهل تأتي لهم بالأدوية التي تمنع موت أطفال اليمن بالآلاف؟
يبدو المشروع التوسّعي الإيراني وكأنّه بلغ مرحلة بداية التراجع. يمكن ان نكون امام تراجع إيراني ومراجعة للسياسة الاميركيّة. كانت الانطلاقة الكبيرة لهذا المشروع الإيراني من العراق في العام 2003. من الواضح، في ضوء نتائج الانتخابات النيابيّة العراقيّة الأخيرة أنّ العراقيين ليسوا متحمّسين للبقاء تحت الوصاية الإيرانية، لا مباشرة ولا غير مباشرة في ظلّ الميليشيات المذهبيّة التي يرعاها “الحرس الثوري”.
سيتوقف الكثير على ما اذا كان الحوثيون سيستولون على مدينة مأرب. سيتبيّن ما اذا كانت الإدارة الاميركيّة بدأت تعي معنى ما يدور على ارض اليمن. سيعني ما يجرى في مأرب انّ “الشرعيّة” بدأت تكتشف انّها في حاجة بالفعل الى إعادة تشكيل وان ليس في الإمكان تركها تتصرّف من دون حسيب او رقيب. كلّ ما تقدم عليه هذه “الشرعيّة” مثير للشفقة، لا اكثر، في وقت يبدو اليمن في حاجة الى مقاربة مختلفة. تقوم هذه المقاربة على انّ لا فائدة من ايّ بادرة حسن نيّة لاقناع “انصار الله” بالتفاوض، خصوصا انّ هؤلاء مرتبطون بأجندة إيرانية لا علاقة لها بمصلحة اليمنيين. لا يدلّ على ذلك اكثر من اقتحام مقرّ السفارة الأميركية في صنعاء واحتجاز يمنيين من الموظّفين المحلّيين في السفارة. هل تفهم إدارة بايدن أخيرا ان هذا هو الردّ الوحيد الذي يمتلكه الحوثيون على اخراجهم من لائحة الإرهاب الاميركيّة؟