عندما تحاصر الجائحة لغتنا!
بقلم: عثمان ميرغني
النشرة الدولية –
جائحة «كورونا» لم تغير حياتنا وسلوكياتنا فحسب، بل فرضت نفسها حتى على لغتنا اليومية. فخلال العامين الماضيين طغت الجائحة على كل مناحي حياتنا، وسيطرت على الأخبار ومشاغل الناس، فأصبح من النادر أن يدور حديث من دون أن يتطرق ويتسلل بشكل ما إلى الحديث عنها. مرة عن المتحورات الجديدة سواء كانت دلتا أو أوميكرون، ومرة عن اللقاحات التي أصبحت أسماء منتجيها على كل لسان، ومرة عن الإجراءات والقيود التي تشدد وتخفف حسب تصاعد الإصابات وظهور المتحورات.
النتيجة أن كلمات وتعبيرات كثيرة بعضها جديد تماماً تسللت إلى قاموس حياتنا اليومية، بعد أن قدمت لنا الجائحة مفردات صرنا نتداولها بشكل عادي في أحاديثنا. أصبحنا نعقد الاجتماعات عبر «زووم»، في إشارة إلى التطبيق الذي بات الأكثر شهرة رغم أنه ليس الوحيد في تطبيقات عقد الاجتماعات عن بعد وبالفيديو.
بتنا نتساءل ما هو مستقبل العمل في المكاتب، وهل يعود مثلما كان، أم أن جائحة «كورونا» غيرته إلى الأبد بعد أن اكتشف الناس والشركات مزايا لعمل الموظفين من منازلهم؟
حتى كلمة «بُعد» أصبحت ترتبط في أذهان الناس بمعانٍ أخرى مختلفة ذات علاقة بلغة الجائحة. أصبح هناك «البُعد الآمن»، و«العمل عن بُعد»، و«التواصل عن بُعد»، ويرتبط بها أيضاً تعبير «التباعد الاجتماعي».
دخلت استخداماتنا اللغوية المألوفة تعبيرات مثل «سلاسل الإمداد» بسبب تأثيرات القيود على عمليات الإمداد والاستيراد والتصدير وما نتج عنها من نقص في بعض السلع والمواد، وانعكس بالتالي على النشاط الاقتصادي والصناعي، وأثر على الأسعار وحياة الناس.
في كل عام، تختار بعض أشهر القواميس العالمية مثل قاموس أوكسفورد، أو كامبريدج، أو كولينز، أو ميريام ويبستر، ما تعتبره «كلمة العام»، وقد يكون الاختيار كلمة واحدة أو أكثر، وقد يكون تعبيراً من كلمتين مثل «الوعي المناخي» أو ربما أزيد. ويهدف الاختيار إلى «عكس الروح أو الحالة المزاجية أو الانشغالات» للأشهر الـ 12 الماضية. لذلك لم يكن غريباً أن تتمحور اختيارات «كلمة العام» على جائحة «كورونا» خلال العامين الماضيين. وعندما أعلنت كلمة عام 2021 اختار قاموس أوكسفورد كلمة «فاكس» التي يستخدمها كثير من الناس في الغرب وبوجه خاص الشباب اختصاراً لكلمة «فاكسين» أي لقاح.
أما قاموس «ميريام ويبستر» الأميركي فقد اختار كلمة «فاكسين» كاملة وغير مختصرة باعتبارها كلمته للعام. ولاحظت الهيئة المعنية في «ميريام ويبستر» التغيرات التي طرأت أخيراً على الكلمة واستدعت توسيع شرح معناها في قاموسها ليتضمن شرح تقنية «الحمض النووي الريبي» المستخدمة في بعض أشهر اللقاحات المنتجة مثل لقاحي فايزر وموديرنا. ليس ذلك فحسب، بل لاحظت هيئة قاموس «ميريام ويبستر» أن كلمة «فاكسين – لقاح»، دخلت أيضاً قاموس الصراع الآيديولوجي بين مؤيدي التطعيم ومعارضيه في أميركا.
قاموس كامبريدج من جهته اختار «المثابرة» باعتبارها كلمته لعام 2021، وقال إنها كلمة تجسد تماماً الإرادة الشجاعة للناس في جميع أنحاء العالم بعدم الاستسلام أبداً، في وجه التحديات العديدة التي شهدها العام. فعلى الرغم من أنها كلمة معروفة ومستخدمة في اللغة الإنجليزية، إلا أنه حدثت زيادة كبيرة في عمليات البحث عنها على موقع قاموس كامبريدج خلال 2021، إذ جرى البحث عنها وعن معناها 243 ألف مرة حول العالم في هذه السنة فقط. ولم يرتبط الأمر فقط بالتحديات التي واجهها الناس من جراء الجائحة أو أزمة المناخ أو المشاكل الاقتصادية، إذ إنه عندما أطلقت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) مركبة «بيرسيفيرانس» أو المثابرة إلى المريخ، بلغ عدد المرات التي بحث فيها الناس عن الكلمة على موقع قاموس كامبريدج نحو 31 ألف مرة.
منذ عام 2019 صرنا نتداول بشكل عادي كلمات وتعبيرات كثيرة من قاموس الجائحة. تعبيرات مثل كلمة الإغلاق، ومناعة القطيع، وأقنعة الوجه، والعزل الذاتي، وناقل للعدوي، والمعقِم. وعرفنا أيضاً تعبيرات مثل «فقاعات اجتماعية» وهي دوائر اجتماعية صغيرة يسمح لها بالاختلاط عندما تكون هناك قيود مشددة تمنع الاختلاط بين عدد كبير من الناس بسبب «كوفيد». وسمعنا لأول مرة بـ «المعايرة بالكمامة» وهو معايرة شخص لارتدائه الكمامة، أو عدم ارتدائه لها بناء على وجهة نظرك من الموضوع. كذلك سمعنا تعبير «حمقى كوفيد» الذي يشير إلى الشخص الذي لا يحترم قيود «كوفيد – 19» ما يعرض الصحة العامة للخطر.
اختيار كلمات بعينها لتلخيص السنة ليس عملية للتسلية، وإنما يعكس القضايا الثقافية أو الاقتصادية التي تشغل الناس وتفكيرهم وتنعكس على حياتهم. على سبيل المثال خذ تعبير «تخضير السمعة – greenwashing»، الذي صرنا نراه ونسمعه في الإعلام الغربي، والمقصود به هنا «تخضير السمعة» على وزن «تبييض السمعة». والتعبير برز مع تنامي الوعي المناخي ويستخدم للحديث عن المشاهير الذين يستخدمون طائراتهم الخاصة لتنقلاتهم ثم يقومون بالتبرع لجمعيات تعمل في مجال البيئة، فيقال عنهم أنهم قاموا بـ «تخضير» سمعتهم.
أزمة المناخ والاحتباس الحراري أدخلت هي الأخرى كلمات كثيرة في قواميس لغتنا اليومية مثل الظلم المناخي، مجاعة المناخ، لاجئي المناخ، الوعي المناخي، القلق المناخي، نشطاء المناخ، دبلوماسية المناخ، وتكنولوجيا إصلاح المناخ. وكلها كانت ستجد مكانها في المنافسة لاختيار كلمة عام 2021 لولا سيطرة الجائحة على كل ما عداها.
جمعية اللهجات الأميركية التي تعتبر الأقدم في اختيار كلمة العام باللغة الإنجليزية، تختار أيضاً كل عشر سنوات كلمة العقد. في التسعينات اختارت كلمة «ويب» احتفاء بشبكة الإنترنت وتأثيرها على العالم، وفي العقد الأول من الألفية الجديدة (القرن الواحد والعشرين) اختارت كلمة «غوغل» كفعل وليس كاسم، وذلك بعدما أصبح محرك البحث أداة لا غنى عنها وصار الناس يستخدمون الكلمة كفعل كأن يقول أحدهم: غوغل هذه الكلمة، أي اِبحث عنها وعن معناها. وفي عام 2000 اختارت الجمعية، «جاز» باعتبارها كلمة القرن العشرين احتفاء بهذا النوع من الموسيقى وتأثيره الفني والاجتماعي خلال القرن الماضي.
الأمل ألا تبقى معنا الجائحة طويلاً بحيث تضاهي كلمات مثل «غوغل» و«ويب». وربما يكون اختيار كلمات «فاكس» و«فاكسين» و«المثابرة» هذا العام يعكس تفاؤلاً بأن ينجح العالم في احتواء الجائحة بفضل اللقاحات وتطور البروتوكولات العلاجية. إنها نبرة تفاؤل في ختام سنة صعبة بكل المعايير.