أميركا والفلسطينيون وعام جديد
بقلم: د. سنية الحسيني

النشرة الدولية –

بعد مرور عام على حكم الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة جو بايدن، لم تأت الرياح بما اشتهت سفن الفلسطينيين، بعد أربع سنوات عجاف من حكم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والتي غير خلالها قواعد العلاقة مع الفلسطينيين، هذه القواعد التي سمحت للولايات المتحدة في الماضي بلعب دور الوسيط في العملية السياسة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ورغم أنها لم تكن وسيطاً محايداً، نجحت الادارات الأميركية في احتلال هذا الموقع منذ عام ١٩٩٣، وحتى عهد ترامب، فهل تحمل السنة القادمة الجديد للفلسطينيين في إطار علاقتهم مع الولايات المتحدة، في ظل المعطيات لدى الإدارة الأميركية الجديدة في الملف الفلسطيني خلال العام الماضي،ومدى وحدود انشغالاتها وارتباطاتها الداخلية والخارجية خلال العام القادم؟

لم تستطع إدارة بايدن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتغيير الواقع الذي فرضته الإدارة الأميركية السابقة في الملف مع الفلسطينيين، اذ اكتفت هذه الإدارة بالأقوال دون أي عمل حقيقي يمكن أن يحافظ على حل الدولتين أو حتى على العملية السلمية التي تدعمها شكلياً، هذا بالإضافة إلى أن العملية التفاوضيةغير موجودةعلى أجندة هذه الإدارة حسب تصريحاتها المبكرة.

لم تراجع الإدارة الامريكية سفارتها في القدس إلى تل أبيب، كما لم تنجح الإدارة الجديدة في إرغام إسرائيل على القبول بفتح القنصلية الأميركية للفلسطينيين في القدس الشرقية، الأمر الذي لا يقدم أي جديد بشأن التراجع عن الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، في تحدي معلن لقرارات الشرعية الدولية، وتحديد مسبق لنتائج مفاوضات السلام، التي يفترض أن تكون الولايات المتحدة وسيطاً نزيهاً فيها. كما لم تنجح واشنطن في إعادة فتح المكتب التمثيلي لمنظمة التحرير في واشنطن، ولاتزال ترفض الغاءوصم منظمة التحرير بالإرهاب، وهماالأمران اللذان استطاعت واشنطن في الماضي تجاوزهمامن خلال استثناء يصدر عن السلطة التنفيذية، فلم يعاد فتح المكتب فقط، بلبات مسؤولو منظمة التحرير عرضة للمساءلة القانونية في الولايات المتحدة بفعل قانون “تايلور فورس” في ظل عجز إدارة بايدن عن التراجع عنسياسة ترامب وإعادة العرف الذي عمل به من سبقوه.

وحتى فيما يتعلق بضغوط الإدارة الأميركية الجديدة في ملف الاستيطان، لم تختلف حدود تلك الضغوط عن المستوى الذي عملت به إدارة ترامب، والتي سعت لعدم وصول التصادم مع الفلسطينيين في ذلك الملف حد الانفجار، اذ اعتبرت الإدارة الجديدة أنها غير معنية بالضغط على الحكومة الأسرائيلية للحفاظ على بقائها. وحتى في قضية اعلان إسرائيل عن تأجيل بناء تسعة الاف وحدة إستيطانية مكان مطار قلنديا، بناء على طلب أميركي، فقد نجحت إدارة ترامب من قبله في تأجيل ذلك المشروع أيضاً، حيثيعد هذا المشروع الاستيطاني قنبلة موقوتة، لأنه إن جرى تنفيذهسيفصل بشكل نهائيبين رام الله والقدس،ويلغي عملياً أي تواصل جغرافي بينهما.ورغم اللقاءات السياسية المتعددة خلال العام الماضي، ناهيك عن تلك الأمنية التي لم تنقطع أصلاً طوال السنوات الخمسة الماضية، واللقاء الاقتصادي الأول منذ خمس سنوات خلال الشهر الماضي،  والتسهيلات المالية البسيطة للسلطة من قبل الإدارة الأميركية، تبقى العلاقة بين الولايات المتحدة والشعب الفلسطيني ضمن مستوى العداء وجبهة الحرب المعلنة، على شعب محتل أعزل، لم تكتف الولايات المتحدة بدعم محتله بكل ما أوتيت من قوة، بل باتت لا تخجل من مخالفة القانون والشرعية الدولية دون حياء.

واجهت الولايات المتحدة خلال العام الماضي صعوبات عديدة على المستوى الداخلي وفي سياستها الخارجية أيضا، ولايزال بايدن وادارته يواجهان أعباء إعادة بناء الولايات المتحدة في الداخل والخارج، فبالرغم من بعض الإنجازات التي نجحت الإدارة داخلياً في تحقيقها، تبقى قائمة المهامالمتبقة طويلة ومتشعبة وشاقة.

وتبقى قائمة الإخفاقات طولية، رغم نجاح إدارة بايدن في تخفيض نسبة البطالة إلى ٤,٢ في المائة، ورفع معدل الأجور بشكل عام، إذ وصل اجمالي الناتج المحلي في العام الماضي إلى٢,٩ في المائة، كما تم تمرير قانون البنية التحتية بقيمة ترليون دولار، لتحديث البنية التحتية من نقل واتصالات ومياة وكهرباء، وتشريعات أخرى أهمها برنامج المساعدات الاقتصادية الاشمل في تاريخ الولايات المتحدة، للتعامل مع الأزمة التي نتجت عن انتشار فايروس كورونا، والذي بلغت قيمته ١,٩ ترليون دولار، كما نجحت في تطعيم ٧٣ في المائة من السكان، في اطار جدل شعبي حول جدوى التطعيم.تلك القائمة من الإخفاقات تفسر انخفاض شعبية بايدن عموماً وبين الناخبين الاديمقراطيين على وجه الخصوص، اذ وصل دعمه من قبل أبناء حزبه إلى ٤٣ في المائة فقط، في نسبة تعد الأدني بين أقرانه من الرؤساء الديمقراطيين،في السنة الأولى من الحكم، والتي تتجاوز في العادة ال ٥٠ في المائة. كما وصل معدل التضخم في الولايات المتحدة العام الماضي إلى ٦,٨ في المائة، وهو الأعلى منذ عام ١٩٨٢، والذي يعكس حالة عدم الرضا والشكوى الدائمة في الشارع الأميركي.

وقد يكون من أهم العقبات أو الإخفاقات، التي لم تنجح الإدارة في تجاوزها، خلال العام الأول من حقبة بايدن، رغم تأكيده بأنها أولوية إدارته، وأنها معركته الحقيقية من أجل “روح أميركا”، الاستقطاب السياسي الشديد، والتوترات الاجتماعية التي تواجه الولايات المتحدة، والتي وصلت حد العنف أحيانا، وانتجت كونجرس شديد التحزب، لدرجة أنه بات يعطل عملية التشريع، ويحد من قدرة الرئيس على المناورة السياسية. وتواجه إدارة بايدن خطر خسارة الأغلبية البسيطة في مجلسي الكونجرس، في انتخابات تشرين الثاني المقبل، والتي سيتم فيها انتخاب ثلث مجلس الشيوخ وجميع أعضاء مجلس النواب، حيث تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى تقدم الجمهوريين في تلك الانتخابات وتراجع مكانة الديمقراطيين. إن خسارة الديمقراطيين تعني عدم القدرة على تمرير أي قانون لا ينال الاجماع الوطني. وواجه بايدن صعوبات عديدة، خلال العام المنصرم، في تمرير العديد من التشريعات، ليس فقط بسبب الأغلبية البسيطة للديمقراطيين في المجلسين، بل أيضاً بسبب الانقسامات داخل الحزب الديمقراطي نفسه بين المعتدلين والليبراليين، وعدم قدرة بايدن على توحيد صفوفه وقيادته. ويعتبر هذا العام عام تحد لبايدن وإدارته لتغير معطيات انقلاب سياسي داخلي عليه، والذي قد يخلق له حالة عجز ستستمر معه باقي سنوات حكمه. يأتي ذلك بالإضافة إلى التحديات العديدة الخارجية، في مقدمتها مواجهة الصين وروسيا وإيران، والتي تجعل من المستحيل على الإدارة الأميركية تغيير مسار اهتمامها لصالح القضية الفلسطينية.

من الصعب اعتماد الفلسطيينين على الإدارة الأميركية الحالية الضعيفة، والتي قد تكون الأكثر ضعفاً مما سبقها، وعلى الفلسطينيين البحث عن مداخل سياسة جديدة غير الولايات المتحدة لدعم القضية الفلسطينية، فالغرب بكل اطيافه لم يحقق العدالة المنشودة للفلسطينيين، وقد تكون الصين من أكثر الدول المؤهلة للعب هذا الدور، خصوصاً وأنها لم تتراجع يوماً عن دعمها للقضية الفلسطينية العادلة. أمًا فيما يتعلق بالولايات المتحدة، فان بقاء الحال من المحال، رغم عدم التعويل الفلسطيني على الإدارات والسياسات الأميركية عموماً، الا أن نظرة سريعة إلى ما بين السطور والشواهد الرقميةلتغير نسب التركيبة السكانيةالديمغرافية والاجتماعيةتحمل تبدلاً في اطار المعطيات السياسية المستقبلية في الولايات المتحدة، وتعطي بريق أمل للفلسطينيين في المستقبل القريب، وتفتح لهم منفذاً للتحرك الاستراتيجي من خلاله.

تراجعت نسبة عدد السكان البيض في الولايات المتحدة من ٧٢,٤ في المائة في العقد الماضي لتصبح اليوم ٦١,٦ في المائة فقط، ويمثل جل هؤلاء الافنجليلكلز،الداعمين الأيديولوجيين الرئيسيين لإسرائيل، وغالبية مؤيدي الحزب الجمهوري. في المقابل، تزايدت نسبة عدد السكان من أصول أفريقية ولاتينية وأسيوية،  والذين باتوا يمثلون على التوالي ١٢,٤ في المائة و١٨ في المائة و٦ في المائة من مجمل نسبة عدد السكان. ويدعم الكثير من الأمريكيين من أصول أفريقية الفلسطينيين، في حين لا يهتم معظم الاسيويين بقضية اليهود وإسرائيل، ولا يربطهم أي رابط أيديولوجي معها، ويبقى الأمريكيون من أصول لاتينية أقل دعماً لإسرائيل واليهود أيدولوجيا، مقارنة بالبيض الأمريكيين. ويمثل الملونون الداعم الأساس للحزب الديمقراطي. كما أنه من الملاحظ زيادة نسبة دعم شريحة الشباب في الولايات المتحدة للقضية الفلسطينية وتعاطفها مع الفلسطينيين، والتي بدأت مراكزاستطلاعات الرأي برصدها منذ عام ٢٠١١.

إن تلك التبدلات في نسبة عدد السكان تفسر التحولات التي تشهدها الساحة السياسة الأميركية لصالح الفلسطينيين في الآونة الأخيرة،فعلى الرغم من اتفاق الحزبين الجمهوري والديمقراطي على دعم إسرائيل، والالتزام بحماية أمنها وبشكل ثابت خلال العقدين الأخيرين، نلاحظ أن بعض التغييرقد طرأعلى توجهات الحزب الديمقراطي بشكل خاص. خلال العام الماضي تعاطف ٤٨ في المائة من الديمقراطيين الليبراليين مع الفلسطينيين، مقابل تعاطف ٣٣ في المائة منهم مع إسرائيل، في حين تعاطف ٤٨ في المائة من الديمقراطيين المعتدلين مع إسرائيل، و٣٢ في المائة مع الفلسطينيين، وفي الحالتين زادت نسبة تعاطف هاتين الشريحتين مع الفلسطينيين، الأمر الذي رفع نسبة تأييد الحزب الديمقراطي عموماً للفلسطينيين، وهو تغيير بنيوي وليس تبدل عابر، يرتبط بموقف وتوجهات الملونين والشباب في الولايات المتحدة وزيادة نسبة تمثيلهم في الحزب، الأمر الذي يرجح زيادة ذلك التأييد في السنوات المقبلة، وسيحرز مزيداً من النتائج، إن تقاطع مع الأداء الفلسطيني في الساحة الأميركية، لاسيما أنه أصبح بمقدور الفلسطينيين إيصال روايتهم إلى المجتمع الأمريكي، الذي أصبح أيضاً، أكثر استعداداً لسماع هذه الرواية وتقبلها.

زر الذهاب إلى الأعلى