قراءة في مجموعة حياة اخرى لعمر مضى للكاتبة ريم القمري

النشرة الدولية –

حياة اخرى لعمر مضي مجموعة قصصية صدرت في آواخر 2021 عن دار الكتاب التونسية، للشاعرة و الكاتبة التونسية ريم القمري.

هو الكتاب الرابع لها، بعد صدور ثلاث مجاميع شعرية هي كالآتي:

النساء انتظار سنة 2013

على جسدي وشمت تمائمي 2016

ما لم يقله الحلم 2018

و تعد هذه المجموعة باكورة أعمال الكاتبة السردية.

و تضمنت  المجموعة ما يقارب 14 قصة واحتوت وردت في الترتيب الآتي.

الجسد الماخور، الآلهة تشارك الأطفال لعبهم، شكرا للصور، حياة أخرى لعمر مضى، سباحة في البياض، وأعلق الملف نهائيا، هشاشة، قطار الأنفاق ، البصل، زوار الليل، لا أحد ينجو من الحنين، سيدة ” الأسود ”، جثت وأشياح.

ما يميز هذه القصص هو  تطرقها،  بشكل مباشر الى مواضيع، هامة و حساسة جدا مثل الإرهاب و جهاد النكاح، اشكالية الجسد ثقافيا و اجتماعيا، الحب كعاطفة و ممارسة والخيانة في بعدها النفسي و الإجتماعي.

تطرقت الكاتبة بالبحث و الكتابة في هذه القضايا الحارقة، قضايا يحتل بعضها اليوم صدارة الأحداث و ربما بعضنا عايش جزء منها، من خلال تجاربه الشخصية او من خلال معايشة تجارب الآخرين.

وتسلط ريم بقصصها الضوء على اذا على ظواهرا إجتماعية كبرى، و إن انطلقت من الأبعاد الذاتية و الشخصية و الاجتماعية و النفسية الضيقة لابطالها نساء و رجالا على حد السواء.

فنراها تركز معاناة المرأة بشكل خاص، وعجزها أحيانا امام التسلط  الذكوري، وهو ينهش جسدها و روحها على حد السواء، و قدرتها حينا آخر على تجاوز هذه السلطة مواجهتها و الإنتصار عليها. و هي في كل هذا تحيلنا الى قطبي رحى الصراع الأزلي الذي مازال قائما كدعامة أساسية في مجتمعاتنا العربية.

قصص ريم، تتميز بالجرأة حيث تطرقت الى موضوع حساس و اشكالي ألا و هو حقيقة دور المراة داخل التنظيمات الإرهابية و أي علاقة تربط  المرأة  بالإرهاب، مركزة في ذلك على ابراز الجانب الشاذ والمريض في هذه العلاقة و داخل هذه التنظيمات السرية. مستعملة مصطلحاتهم الخاصة مثل “جهاد النكاح” مسلطة بذلك الضوء على وجه آخر من وجه تجارة الجنس تحت مسمى الدين.

ريم تطرح هنا وبقوة داخل قصصها، موضوع الشذوذ الجنسي و الانحرافات النفسية المترتبة عنه، الشذوذ الذي لا تكون فقط المرأة ضحيته بل الرجل أيضا ، هذا الانحراف  المنتشر في عديد المجتمعات واالثقافات على حد سواء. و الذي لبس عباءة الدين ليجد رواجا و انتشارا أوسع داخل مجتمعاتنا العربية المحكومة مسبقا ، بالعديد من العقد و التابوهات حينما يتعلق الأمر بالمرأة و الجسد و الجنس.

واصلت ريم، عبر قصصها التوغل في عمق الظواهر الاجتماعية، مثل موضوع الهجرة السرية، و ربما اختيارها لبطلة امرأة مهاجرة سرية، ليس أمرا اعتباطيا، و لا اظنه انحيازا نسويا فقط ، أظن أن الكاتبة في بحثها عن المسكوت عنه، أرادت ان تبرز أن المرأة أيضا تتعرض لما يتعرض له الرجل من ضغوط نفسية و إجتماعية و اقتصادية، و ربما أرادت أيضا ان تجعلنا ننظر لظاهرة خطيرة مثل الهجرة السرية اة رحلات الموت بمنظار أنثوي، و لتكسر نمطية تحليلنا و قراءتنا لهذه الظاهرة.

تسترسل الكاتبة في استعراض ظواهر اجتماعية يمكن تصنيفها في خانة الأمراض الاجتماعية، التى استفحلت داخل مجتمعاتنا مثل علاقات الحب في العالم الافتراضي،و الكذب والتدليس،و قد نجحت في كل مرة في اختيار النموذج المناسب فعلاً.

في قصص ريم،  نجد صورة مصغرة ليس فقط عن المجتمع التونسي، بل ان الكاتبة كانت و كأنها تكتب عن المجتمع العربي بتناقضاته وأمراضه الاجتماعية و النفسية و مشاكله الاقتصادية.

تعتمد الكاتبة على سرد متماسك البنيان، و هناك خيط ناظم يربط جميع قصص المجموعة، قد يبدو لك للوهلة الاولى، أنها تتطرق الى مواضيع مختلفة لكنك سرعان ما تتفاجئ انها تتحرك داخل نفس المنظومة الفكرية.

في اهداء المجموعة تقول ريم قمري، أنها كانت تكتب لتتخفف من زخم الذكريات… ذكريات الأب والجد، المليئة بالحزن والحنين.

و من خلال عتبة الاهداء تحيلنا وجوباً الكاتبة للتفكير انها ستقدم لنا نصاً مشبعاً الذاتية او نص يحكي سيرتها الذاتية، و ان كانت كل كتابة ضرورة لا تخلو من ذاتية، إلا أن ريم القمري تأخذك من يدك هنا لتجد نفسك أمام مجموعة من الحكايات و القصص ، كل حكاية هي عالم خاص و فريد في حد ذاته، لكنها كلها حكايات ينهل بعضها من الاخر و تستمد قوتها من ارتباطها بالواقع و التصاقها التصاقا وثيقا بقضايا مجتمعها.

انها الكتابة بحد السكين حيث يمتزج الذاتي بالمتخيل و الواقعي بالخيال.

و يتميز سرد ريم  بالتشويق، تتلبس بك الشخصيات و الأحداث حتى تصبح جزء منها و تساهم بدورك كقارء في صناعة الأحداث من خلال تقمص أدوار الشخصيات و تتبع مسير حياتهم.

حين تقرأ مجموعة حياة اخرى لعمر مضى، تكتسب ثراء وجدانيا، والقصصة أنت تتبع، كيف تولد المفارقات، صدفاً و تفتح آفاقاً مغلقة.

و تمضي القمري في عرض المفارقات والاحتمالات على القارئ ، باعتماد وصف دقيق و الاشتغال بعناية على التفاصيل  دون السقوط في الثرثرة التى تثقل السرد.

و هو ما  ينجر عنه ، نشأة علاقة تربط القارئ بالنص، تجعله يتعلق بالنص، و لا يكاد ينتهي من القراءة  حتى يعيد المرة مرة أخرى، و كأنه مشدود الى الكتاب بمغنطيس يشده بقوة.

تكتب ريم بأسلوب جريء جدا تلك الجرأة التى نعهدها سابقا في الكتابة النسائية، و هي وإن كانت صادمة للبعض و خارجة عن السرب بالمعني الاخلاقي الضيق، إلا ان الكاتبة استطاعت ان تطوع مواضيع ما تزال تعتبر تابوهات و محرمات في مجتمعاتنا، و تناولتها دون خوف، كانت تتحرك داخل حقل ألغام قابل للتفجير في كل لحظة، لكنها استطاعت ان تطوع هذه المتفجرات و تقدمها كما هي، بوجهها الحقيقي دون الحاجة الى التخفي وراء استعارات و تشابيه.

وضفت الكاتبة الجنس والجسد، دون ان تسقط في الابتذال و السطحية و دون ان يفقد النص مضمونه الجدي ، حتى انه يمكنك أن تقرأ مشهدا بونوغرافيا، و تتلقاه كشكل فنى متكامل الأركان، لان الكاتبة نجحت في تقديمه لك كعنصر أساسي و طبيعي في سياق الفعل الدرامي و السردي.

فحين تتطرق الكاتبة لموضوع الخيانة باعتباره ليس فقط فعل جسدي بل هو أيضا فعل روحي، أي انه سقوط مادي و معنوي.

ربما إختيار ريم  في اغلب قصص المجموعة لنساء بطلات لقصصها مقارنة بحضور الرجل كبطل اساسي في قصتين فقط ، إلا ان الرجل كان حاضرا بشكل واضح باعتباره الآخر ، المواجه أحيانا و المرأة العاكسة أحيانا اخرى ، لكن ربما الكاتبة  ركزت على حكايا غالبية بطلاتهن نساء تركيزا منها على أهمية الجسد باعتباره أداة نتعامل بها و من خلالها مع العالم ، الجسد باعتباره أداة تواصل وتعبير عن ذواتنا ، ليس ققط متقبل و أداة شهوة و سلعة قابلة للشراء، لذلك ربما احتاجت ان تروي حكايا أجساد نساء باعتبار اننا في مجتمعات لم يتعدى وعيها بالمرأة حدود الرغبة الجسدية والشهوة العابرة.

و ان كانت الكاتبة قد عرجت ايضا على موضوع جسد الرجل حين يتحول بدوره الى سلعة (الغلمان و اللواط و الشذوذ الجنسي في قصة حسزاء الجبل و ايضا في شكرا للصور).

لذلك يمكننا أن نطلق  مصطلح “الأكشن” او  المثير الدرامي على الجسد بصفة عامة ،  حيث وظفته الكاتبة وجعلت حضوره مهيمناً في جميع النصوص القصصة بدرجات.

حيث تناولت بطريقة سردية مثيرة وغير منفرة رغم قسوة بعض المشاهد، ما جعل الفكرة تصلنا  بتفاصيلها دقيقة.

تكتب ريم إذا الواقع كما هو بقسوته، جمعت فيه ما بين الحب في ابهى تجلياته، و في انكساراته ايضا ، الموت الخيانة الاغتصاب الشذوذ، كتبت الشئ و نقيضه لتقول لنا أن الحياة لا تستقيم إلا بتناقضاتها.

تحبر ريم نصوصها بقوة دون خوف لا تعتمد على الإثارة السطحية تحاول أن تقفز فوق المحرمات في الكتابة لجعلها قابلة للقراءة بعيدا عن التفسير الاخلاقي و المجتمعي الذي يقيد الفن و الابداع.

تخط نصوصها  بالكثير من الصدق و الصراحة و تجعلك تتبع خيط السرد بعيدا عن الأحكام المسبقة .

تحرر الجسد و الروح في آن واحد،  مثلاً في قصة حسناء الجبل،  تصف الفتاة الملقبة بحسناء الجبل و هي ممدة بين رجلين اثناء العملية الجنسية تبدو و كأنها لا روح فيها، و عندما يطلب منها القائد “أمير الجماعة” نزع ملابسها بالكامل في الكهف،  تفعل ذلك بطريقة آلية، وعندما بدأ الاثنين التهام جسدها في ذات الوقت ، تحولت الى جسد خالي من الروح؛ مجرد صنم في انتظار انتهائهما ، ثم بعد ذلك ركضت و هي تسمع صوت امها يرن في أذنيها”.

اما في قصة حياة اخرى لعمر مضى يتحول الجنس و الجسد الى طاقة إيجابية و شكل من أشكال العبادة و الصلاة في محراب الروح و الجسد معا . في هذه القصة نرى البطلة و قد اكتسبت وعيا جديدا بذلتها

“كانت لا تعرف حجم الطاقة داخلها… هي كانت لذة عندما التحم الجسدان ببعضهما، احست انها ولدت من جديد وتطير عالياً خارج الأفق المحدود”

ريم وهي تصور الشخوص داخل قصصها تضعهم في أوضاع نفسية و إجتماعية و جنسية ، برؤية ثقافية تخلو من كل ما هو مبتذل او تجاري.

تكتب ريم  بمصطلحات بسيطة و واضحة لكنها دقيقة،  تبحث في قضايا مجتمعها، وتكتب بروح العصر تحفر في عمق الهوية العربية الإسلامية للمرأة كعنصر فعال في المجتمع، باعتبارها نصف المجتمع و ارتباطها العضوي بالرجل في علاقة جدلية يقوم على أساسها المجتمع.

الصورة الطاغية للمرأة في سرد، ريم، نلاحظه  في قصص  «شكرا للصور» و«البصل» و«حياة أخرى لعمر مضى».

حيث تقدم لنا صورة  امرأة معطوبة ومستهلكة، لا تملك حياتها، تهزم تستسلم او تموت، و في مواضع اخرى تنتفض من رمادها، تنتصر. بطلات في صراع مرير مع الواقع، في رحلة لاثبات الذات.

وتشير القاصة  الى الشرخ العميق بالتعير الوجداني والذي يتعلق بالمرأة حتى تحقق هويتها المفقودة وتكشف الذات الإنسانية قبل أن تعتريها على ما وقع من تحولات في المجتمع، والإشارة إلى أبعادها الأيديولوجية والثقافية، من خلال البحث في عالم الشخصيات، بالشق العميق وابتكار دينامية التعبير الحسيّ والوجداني، خصوصا المتعلق بالمرأة. لكنها عادت بنا أيضا إلى الجذور الحقيقية، وتجتثّها من عالمها الحيّ، كضرب من التحدي الوجوديّ من أجل الهوية وتحقيق الذات.

بجموعة ريم قمري القصصة “حياة أخرى لعمر مضى”، يلاحظ أن المجموعة بمجملها يمكن وصفها بمكتبة صغيرة لكنها مليئة بحكايا صور حقيقية مثل الحياة ،  جريئة و متهورة أحيانا، تكسر السائد و الرتيب و تؤسس لكتابة شجاعة بأسلوب سلس و لغة سليمة و بنيان سردي محكم.

ريم سطرت انتصارها للجسد الذي انهكه المجتمع و تجارة الجنس و ثقافة الاستهلاك .

و نجحت بامتياز ان تنقلنا بقصصها، داخل عوالم كانت مغلقة و سرية مثل عوالم الإرهابيين. و المهربين و المرضى النفسيين.

و انتصرت بقصصها في تأجيج نار الفضول و التشويق داخلنا اشعلتها كما نُشعل السجائر، لكن الشوق عند ريم ليس كنار سجائرنا، إنه لا ينطفأ بنهاية القراءة.

حياة اخرى لعمر مضى منجز أدبي جدير بالقراءة و المتابعة، إنه حياة حقيقية داخل الحياة، و دعوة صريحة لكشف المستور و كسر التابوهات و المحرمات.

و بقعة ضوء اضاءت علينا الكاتبة من خلالها، عتمة المجتمعات العربية  بالحفر عميقاً  في أمراض و علل هذه المجتمعات.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى