حياة الرايس: كتابة السيرة الذاتية أمر خطير في مجتمع مزدوج الشخصية… النص خدعة ممتعة بين الكاتب والقارئ

النشرة الدولية –

العرب –

ذاعت شهرة السيرة الذاتية في الفترة الأخيرة، حتى وُسِمَ هذا العصر بأنه عصر الاعترافات، وهو ما دفع البعض بسبب تبوّؤ السيرة الذاتيّة مركز الصدارة في حقل الأنواع الأدبية، إلى إعلان نهاية الرواية وبداية السيرة الذاتية. فقد اجتاح العالم تسونامي اعترافات لم تقتصر على أدباء وفنانين، بل زاحمهم في البوح والاعتراف سياسيون ورؤساء قدّموا اعترافاتهم على شكل سير ذاتية، لكن تبقى كتابة المرأة لسيرتها دائما محل جدل، إذ غالبا ما تواجه بشكل أكثر حدة في اعترافاتها.

هل من السهل أن تكتب امرأة سيرتها الذاتية في مجتمع عربي إسلامي؟ وهل يمكن الحديث عن أزمة كتابة السيرة الذاتية في مجتمع عربي تقليدي معطوب الحداثة؟ وهل يصحّ الحديث عن سرد نسوي وآخر رجالي؟

هذه الأسئلة وغيرها كانت منطلقا للقاصة والروائية والشاعرة والكاتبة التونسية حياة الرايس للحديث عن جملة من القضايا في علاقة بكتابة السيرة انطلاقا من تجربتها الخاصة، وذلك خلال مشاركتها أخيرا في ندوة بعنوان “السرد النسوي بين الشرق والغرب”، تندرج ضمن فعاليات الدورة 53 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب. وقد أدارت الجلسة الدكتورة أميرة مروان وشارك فيها إلى جانب الأديبة حياة الرايس، كل من منصورة عزالدين وعائشة البصري وعائشة إبراهيم.

في تعليقها على عنوان الندوة عبّرت الكاتبة التونسية عن رفضها تصنيف السرد إلى نسوي ورجالي، وأكدت على أن النص هو امتداد لشخصية الكاتب وأفكاره ووجدانه وحواسه وانتمائه، قائلة “لا أحب الكتابات الباهتة التي لا تحمل بصمة أو هوية لكاتبها إذ أن الخصوصيات تكتسي طابعا مهما في الأدب وهي التي تميّز بين كاتب وآخر” قبل أن تضيف “أحب أن يشم القارئ عطر الأنثى في كتاباتي”.

الكاتبة حياة الرايس التي وقعت بمناسبة استضافتها في المعرض روايتها السيرية “بغداد وقد انتصف الليل فيها” في طبعتها الرابعة الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، خصصت مداخلتها للحديث عن مأزق كتابة السيرة الذاتية في مجتمع “يتلذذ بالتلصص على حياة الغير فما بالك بحياة المرأة”.

وبينت أنه في أجواء لا يعترف فيها بخصوصية الحياة الخاصة، يصير من الصعب أن يبوح المبدع بما في نفسه خاصة وأن البوح قد يؤثر على حياة الآخرين كما أن حياته نفسها قد تتعرض للخطر.

وغالبا ما تطرح الكتابة عن الذات إشكاليات عديدة، منها ما يتعلق بصدق واضعها وأمانته، ومنها ما يتصل بغاياتها وعلاقتها بالواقع والآخرين، ومنها ما يخص انتماءها إلى جنس أدبيّ معيّن، لأنها كتابة ذات أفرع وشجون، قد تتبدى في شكل سيرة ذاتية، وقد ترد في شكل مذكرات أو يوميات أو اعترافات، وقد تأتي في شكل روائي يمزج بين الذاتيّ والموضوعيّ والمتخيل. وإذا كانت تلتقي كلها في كونها عملية سرد يروي من خلالها أحد الأشخاص حياته أو جانبا منها، فإنها تختلف في ما بينها من حيث الشكل والغايات.

اليوميات مثلا هي مجزوءات متشظية، تروي أياما متصلة أو منفصلة عاشها أو يعيشها المدون، كنوع من اقتناص لحظات من حياته الخاصة وملاحظات من الحياة العامة قد تساعده على فهم نفسه وفهم الناس من حوله والمجتمع الذي يعيش فيه. وعادة ما تظل حبيسة الأدراج، لأنها حميمة بالأساس، والغاية منها ذاتية صِرف.

أما المذكرات فهي في أغلبها شهادة على العصر وأحداثه البارزة -التي قد يكون الكاتب لعب دورا فيها أو كان شاهدا على وقوعها- تكتب لإضاءة بعض الجوانب التاريخية، أو استخلاص العبر من تجارب السابقين، لتكون مرآة مرحلة. ولكن عادة ما يتقمص أصحابها الدور الأجمل، فيشنعون بمعاصريهم، ويستأثرون بالفضائل والخلال والشمائل.

وعن كتابة سيرتها الذاتية في روايتها الأخيرة، أشارت الرايس إلى أنها دخلت غمار التجربة وهي على وعي بصعوبة البوح في مجتمع مزدوج الشخصية، يعيش حياتين واحدة في السر والأخرى في العلانية، كما أن ثقافته هي ثقافة التستر على العيوب والأخطاء والذنوب (وإذا عصيتم فاستتروا) فهو مجتمع غير متصالح مع ذاته أو مع الآخر، بل هو يعيش ضربا من السكيزوفرينيا في تقديرها.

وبيّنت الأديبة حياة الرايس أن الكاتب قادر على تجاوز كل ذلك “بل مهمته كشف هذا الزيف وتعرية الرياء والنفاق الاجتماعي”، لكنها ترى أن الصعوبة تكمن في أن يبدأ بنفسه، فكيف سيعرّي نفسه أمام قرائه وهو في نظرهم ونظر نفسه أحيانا المثل الأعلى، وهو ما جعلها تعتبر أن “كتابة السيرة أمر صعب وخطير ومغامرة كبيرة في اللغة كما في الحياة”، فهي تحتاج “شجاعة وثقة وأسئلة وجودية حارقة”.

اعتبرت الرايس أن كتابة السيرة هي موقف من الذات ومن الآخر، إلا أن الكاتب حتى وإن استجمع كل شجاعته واختار بكل حرية، دخول فن أدب الاعتراف، فإنه يصطدم بالمتلقي الذي قد لا يكون جاهزا لتقبل الآخر بأخطائه وزلاته، فضلا عن صعوبة أخرى وهي أن بعض مؤسسات النشر قد لا تقبل كل أنواع البوح.

ولإثراء النقاش طرحت الكاتبة حياة الرايس، في مداخلتها جملة من التساؤلات منها: هل أن كتّاب السيرة مجبورون على قول كل ما يتعلق بحياتهم الخاصة بصدق، أي هل أن حياة الكاتب كتاب مفتوح ومباح للجميع؟ أليس من حقه أن تكون له حديقته السرّية؟

وبيّنت أن كل هذا الأسئلة وغيرها تجعل الكاتب يفكر كيف يقدم نفسه للقراء: كإنسان كامل، كبطل، أم كبشر له هناته وزلاته، أم كإنسان مظلوم ومضطهد؟ كما أشارت إلى تعلّق الأمر بكرامة الذات أيضا، فهل تسمح هذه الذات بتعرية هوانها وسقوطها وفشلها وانكسارها وخيباتها؟

وخلصت إلى القول بأن “في كتابة السيرة الذاتية ليس المهم ما نقوله بل الأهم ما بقي في ردهات القلب من أسرار وممّا هو مستعص عن القول لا السرد يبوح به ولا الذاكرة تتكرم بنسيانه، ولا الخيال يقتنع بما ينسج من تستر عليه، حتى تأتي الرواية التي لا تعلن عن نفسها ‘سيرية‘ لتبدأ لعبة التخفي والخدعة والتحرر”، وهذا ما يفعله جل الكتاب، بحسب الروائية حياة الرايس التي ترى أن النص ليس سوى “خدعة بين الكاتب والقارئ لكنها خدعة ممتعة لأن النص لا يستطيع أن يتخلص من روح صاحبه أبدا”.

ويذكر أن الأديبة حياة الرايس قاصة وروائية وباحثة، تكتب الشعر والمسرح والقصة والرواية، تحمل في رصيدها عديد الإصدارات منها بالخصوص “ليت هندا” (مجموعة قصصية -1991) و”جسد المرأة من سلطة الإنس إلى سلطة الجن” (1995) و”سيدة الأسرار-عشتار” (مسرحية-2003 ) و”أنثى الريح” (شعر) و”حكايات فاطمة” (سلسلة قصص للأطفال) و”أنا وفرنسوا…وجسدي المبعثر على العتبة” (مجموعة قصصية-2009) و”طقوس سرية…وجحيم” (مجموعة قصصية- 2015) و”بغداد وقد انتصف الليل فيها” (رواية سيرية-2018 ) و”الجسد المسكون والخطاب المضاد” (دراسات وبحوث 2021).

زر الذهاب إلى الأعلى