ما بعد الغزو: مضاعفات “القوة الناعمة”
بقلم: رفيق خوري

ما بقي من النظام العالمي تلقى ضربة قاسية ولا أحد يعرف إن كنا في الطريق إلى مرحلة من الغموض أو من الوضوح

النشرة الدولية –

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخطأ في الحسابات انطلاقاً من طموح جيوسياسي لا يمكن تحقيقه بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ادعى أن أوكرانيا “لم يكن لها وجود في التاريخ”. واعتبر أن كل المناطق التي خسرتها روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي هي “روسيا التاريخية التي سرقت منها”. وهو ربح عندما حشد قواته على حدود أوكرانيا، فصار مركز الاهتمام. جاء إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز، وحادثه الرئيس الأميركي جو بايدن افتراضياً أكثر من مرة، وأرسل رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون وزيرة خارجيته إلى موسكو، وناشده الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الحرص على الحل الدبلوماسي والميثاق الدولي، واقترح عليه حلف “الناتو” حواراً أمنياً، وطالب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بقمة معه. لكنه تلاعب بهؤلاء جميعاً موحياً أنه مستعد للدبلوماسية والحوار، قبل أن يبدأ الغزو. وليس قليلاً ما خسره باستعمال القوة. محاوروه صُدموا وبدأوا فرض العقوبات على روسيا. سياسته التقليدية القائمة على إضعاف الاتحاد الأوروبي والتفريق بين الدول الأوروبية ودق إسفين بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، أُصيبت بضربة قوية. أوروبا صارت أكثر وحدة في موقف موحد مع الموقف الأميركي ضد الغزو الروسي، وانضمت إلى الموقف كندا واليابان. موسكو في عزلة. اقتصادها مقطوع عن السوق العالمية. وأوكرانيا محط الاهتمام العالمي. وهذا ما اختصرته “الإيكونوميست” البريطانية بمعادلة: “ربح تكتيكي وخسارة استراتيجية”.

ذلك أن تغيير الخرائط بالقوة لا يدوم. كم مرة تغيرت خريطة بولونيا التي سُميت “كعكة الملوك” وتعاقب على احتلالها في القرن العشرين هتلر وستالين، ثم عادت دولة مستقلة. ومن النكات التي شاعت أيام الهيمنة السوفياتية عليها واحدة خلاصتها، أن الخالق سأل مواطناً بولونياً عما يتمناه فقال أن تغزو الصين بولونيا. وطلب منه أمنية ثانية فقال أن تتحرر بولونيا من الصين. وحين سأله عن سبب هذه الأمنيات الغريبة قال لأن الصين ستحتل روسيا، وهي في الطريق إلى بولونيا، وتدمرها وهي في طريق العودة.

هذه المرة أوكرانيا لا تستطيع طلب الغزو الصيني. فالصين دعمت بوتين واعتبرت أن ما قام به “ليس غزواً”. وهي تقول ذلك، وعينها على تايوان واستعادتها بالقوة في وقت ما. وهذه المرة أيضاً، بعد تدخل بوتين عسكرياً في جورجيا وسلخ أبخازيا وأوسيتيا، ثم ضم شبه جزيرة القرم، سيجد بوتين نفسه في ورطة يواجه حرب عصابات صعبة في أوكرانيا، وإن بات متأكداً من أن الغرب الأميركي الأوروبي لن يستخدم “القوة الخشنة” في مواجهة الغزو ولن يهدد بها. لكن “القوة الناعمة” في الغرب أقوى من القوة الخشنة في مواجهة روسيا التي لا يتجاوز دخلها القومي 40 في المئة من دخل ألمانيا، وبالكاد يوازي الدخل القومي لإيطاليا.

والتناقض كبير بين ما قاله بوتين في استراتيجية الأمن القومي الجديدة وبين ما فعله في أوكرانيا. جاء في الاستراتيجية أن “التهديد الأساسي للأمن القومي ناجم عن محاولات دول غير صديقة استخدام المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في الاتحاد الروسي لتدمير وحدته الداخلية وإلهام حركات الاحتجاج وجعلها راديكالية وتقسيم المجتمع الروسي”. وفي حسابات الغزو، أعطى بوتين الأولوية للاعتبارات والطموحات الجيوسياسية على الهموم الاقتصادية والضرورات الدبلوماسية والقانونية. ومن النادر أن يقول الأمين العام للأمم المتحدة عن دولة كبرى ما قاله غوتيريش عن روسيا و”خرق القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة”. وها هو بايدن الذي وصف بوتين بأنه “قاتل” ثم التقى به، يقول الآن إنه في حال “جنون كامل”. لا مجرد جنون العظمة، بل الجنون بمعناه العادي.

والتطورات متسارعة في لعبة متحركة. ومن المبكر تقدير ما تقود إليه الصدمة في أوروبا التي عاشت الرفاه والاسترخاء والسلام بعد الحرب العالمية الثانية. لكن المؤكد أن ما بقي من النظام العالمي تلقى ضربة قاسية بالغزو وردود الفعل عليه. ولا أحد يعرف إن كنا في الطريق إلى مرحلة من الغموض أو من الوضوح.

 

 

 

Back to top button