نهاية النهايات: التاريخ والحرب الباردة
بقلم: رفيق خوري
الجواب عن سؤال العالم إلى أين رهن عوامل عدة متحركة
النشرة الدولية –
السلاح النووي ليس لعبة تكتيكية. ومن يهدد به كخيار استراتيجي أخير يعرف أنه لا يستطيع استخدامه. وإذا ركب رأسه، فلن يرى اليوم التالي لإطلاق الرؤوس النووية. لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلوح به في الأيام الأولى لغزو أوكرانيا بعدما صدمته الوقائع في ميدان الحرب والإرادة السياسية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. فمن حيث أراد بالحرب “تصحيح التاريخ”، أعاد القارة العجوز إلى التاريخ الذي استقالت منه بعد الحرب العالمية الثانية أو أقله بعد الحرب الباردة. ومن حيث استخدم القوة لمنع الغرب من مد “الناتو” إلى حدود روسيا ودفعه إلى التراجع عن نشر الأسلحة في الدول التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي أو المعسكر الشرقي ودخلت نادي الحلف، جعل الدول الأوروبية تشعر بالحاجة أكثر من السابق إلى عضوية “الناتو”. وما أقدم عليه كان مكتوباً على الجدار، فقبل سنوات قال بوتين بصراحة إن “انتهاء الحرب الباردة أنهى النقاش الأيديولوجي، لكن الجدل الجيوسياسي لم ينتهِ، لأن لكل الدول مصالحها الوطنية والقومية، وستكون القوة العسكرية أداة السياسة الخارجية، والسؤال هو “كيف تستخدم القوة؟”. وهو استخدمها من قبل في الشيشان وفي جورجيا والقرم وسوريا، وربح. ويستخدمها اليوم في أوكرانيا، ويخشى أن يخسر.
ذلك أن هدفه الاستراتيجي هو التخلص من نتائج الحرب الباردة التي تصور ميخائيل غورباتشوف أنه شريك في ربحها، فأعلن الرئيس الأميركي جورج بوش الأب أن الغرب ربحها. لا بل إن فرنسيس فوكوياما ذهب في الغلو إلى إعلان “نهاية التاريخ” بعد انهيار جدار برلين ثم الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، عبر “سيادة الديمقراطية الليبرالية السياسية واقتصاد السوق الحرة”. لكن ما سماه هيغل في القرن التاسع عشر “مكر التاريخ” غلب مقولة فوكوياما وأجبره على التراجع والاعتراف بأن “لا نهاية للتاريخ ما دام العلم الطبيعي لم ينتهِ” من دون أن يسلم بقول هيغل إن “التاريخ الكلي هو الحكم الأخير”. وعلى كثرة الردود على فوكوياما، فإن الرد المعبر جاء من المفكر كيشور محبوباتي في الشرق الأقصى بالقول “نهاية التاريخ تعادل انتصار الغرب، وعودة التاريخ تعادل تراجع الغرب”. ولم يكن من المفاجآت أن تتمسك كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي ثم وزيرة الخارجية أيام بوش الابن بقولها “أنا تلميذة التاريخ. ولو نظرت إلى الغرب في أعوام 1926 و1947 و1987 لرأيت أنه فاشل، لكنه ربح الحرب الباردة في النهاية”.
بوتين الذي انهار جدار برلين على رأسه، معنوياً، حين كان ضابطاً في”كي جي بي” عاملاً في ألمانيا الشرقية وعاد إلى بطرسبرغ مع انهيار الاتحاد السوفياتي ليعمل سائق سيارة أجرة، مملوء بالرغبة في الانتقام من الغرب. لم يكن وصوله إلى السلطة صدفة على يد الرئيس الضعيف السكير بوريس يلتسين. وهو حدد لنفسه دوراً كبيراً سماه “تحقيق المهمة التاريخية لروسيا كمركز للفضاء الأوراسي” المواجه للفضاء الأوروبي. وقف ضد “الثورات الملونة” في أوروبا الشرقية. دعم اليمين المتشدد في أوروبا وأميركا. سمح للمتشددين الروس في بطرسبرغ بتدريب النازيين الألمان الجدد. كان ولا يزال حزيناً على معمر القذافي وغاضباً على الغرب الذي خدع روسيا في مجلس الأمن. تدخل عسكرياً لمنع إسقاط النظام في سوريا. وعمل مع الرئيس الصيني شي جينبينغ على إنهاء القطيعة التي بدأها الزعيمان ماوتسي تونغ وستالين وأكملها حلفاؤهما، واستعادة التحالف الاستراتيجي ضد الغرب.
لماذا؟ للعودة إلى الصراع الجيوسياسي في اللعبة الدولية. والبداية هي تأكيد نهاية النهايات التي ظهرت بعد الحرب الباردة حول نهاية التاريخ. نهاية الحرب الباردة، ونهاية الجغرافيا. فالتاريخ لا ينتهي. والحرب الباردة يجب تجديدها ولو بشكل آخر مع حروب ساخنة. والجغرافيا هي أكثر العناصر ثباتاً في السياسات الاستراتيجية. أما سؤال: العالم إلى أين، فإن جوابه رهن عوامل عدة متحركة. وأما ما بعد حرب بوتين على أوكرانيا، فإن صدام الحسابات والإرادات هو ما يقرر في المدى المتوسط.