الشرق الأوسط وواشنطن في ضوء “التجربة الأوكرانيّة”
النشرة الدولية –
على رغم التعاطف الإنساني مع الشعب الأوكراني الذي يواجه واحداً من أضخم الجيوش في العالم، بدت أبرز الدول المحسوبة تاريخياً على “الغرب”، كأنّها تنأى بنفسها عن الصراع الدبلوماسي – المالي – الاقتصادي بين روسيا، من جهة أولى، والولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، من جهة أخرى.
ولا ينطبق هذا الواقع على عدد مهم من الدول الخليجية فحسب، بل يسحب نفسه الى إسرائيل نفسها أيضاً.
ولا ينبثق هذا الموقف “الشرق أوسطي” من رهانات على هذا المعسكر أو ذاك، إذ أنّ الجميع يدركون، منذ انطلاق الصاروخ الروسي الأوّل، أنّ الانتصار العسكري محسوم لمصلحة موسكو، مهما قاوم الأوكرانيون، فيما الانتصار المالي – الاقتصادي معقود لمصلحة واشنطن وبروكسل وحلفائهما، مهما “كابر” فلاديمير بوتين.
إنّ هذا النأي بالنفس الذي تعتمده دول خليجية مهمة وإسرائيل، في الحرب الروسية على أوكرانيا ينطلق، فعلياً، من تراكم الأخطاء الأميركية، لا سيما منذ وصول الرئيس جو بايدن الى البيت الأبيض، واصلاً ما كان قد انقطع من سياسات مشكو منها سبق أن اعتمدتها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما.
إنّ الولايات المتحدة، في سياساتها التي كان قد رسمها باراك أوباما وأعاد إحياءها جو بايدن، سمحت لموسكو بأن تصبح لاعباً كبيراً في الشرق الأوسط، وذلك من البوابة السورية، في وقت أظهرت أنّ مصالح حلفائها في المنطقة لا تهمّها، مهما تضرّرت، بحيث قدّمت التفاوض مع إيران على ملفها النووي على كل الأولويات الأخرى، الأمر الذي أعطى أذرع الجمهورية الإسلامية في إيران قوة شبه كاسحة في أكثر من موقع استراتيجي في الشرق الأوسط.
ولم يكن رفع الولايات المتحدة مع وصول جو بايدن الى البيت الأبيض “حوثيي” اليمن، عن لائحة الإرهاب التي أدرجهم فيها الرئيس السابق دونالد ترامب، وفرضها نوعاً من الحظر على تصدير الأسلحة النوعية الى المملكة العربية السعودية، ووضعها سلوك حلفاء التحالف العربي وحلفائه اليمنيين تحت المراقبة اللصيقة، من دون ثمن، بل انعكس ذلك كلّه سلباً، ليس على ميزان القوة في اليمن نفسه فحسب، بل وصل الى حدود تهديد الأمن الاستراتيجي لكل من الرياض وأبو ظبي، أيضاً.
ولم يكن الأمر أقل أهمية، بالنسبة الى إسرائيل، إذ وجدت أنّ ترك الولايات المتحدة سوريا في عهدة روسيا التي تتحالف ميدانياً مع إيران، أدخلها في خطر استراتيجي غير مسبوق، الأمر الذي دفعها الى عقد اتفاقات خاصة مع موسكو، لتسمح لها، من خلال منحها حرية نسبية من العمل العسكري في سوريا، بتقليل المخاطر الناجمة عن تغلغل إيران في سوريا ومضاعفة نفوذ “حزب الله” وقدراته في لبنان.
إنّ الولايات المتحدة التي ظنّت أنّه يمكنها تقليل اهتمامها بالشرق الأوسط لمصلحة تركيز جهودها على منطقة “بحر الصين”، اكتشفت، في مناسبة الحرب الروسية على أوكرانيا، أنّها ارتكبت أخطاءً فادحة، الأمر الذي جعلها على سبيل المثال لا الحصر، أعجز من أن تسيطر على إنتاج النفط وتالياً على تخفيض أسعاره التي التهبت وتُلهِب معها كلّ أنواع الصناعات، ما ينتج تداعيات خطرة يترجمها التضخم المتنامي في عدد كبير من الدول، وهي في مقدمتها، في وقت لم تخرج بعد من تأثيرات جائحة كوفيد-19.
وهذا يعني أنّ النظريات “الدفترية” الأميركية التي كانت قد جهدت لإخراج الشرق الأوسط من قائمة الأولوية ثبت عدم دقّتها، ولهذا فإنّ البعض يرى أنّ واشنطن، في ضوء التجربة الأوكرانية، سوف تعيد حساباتها، وتالياً سوف تولي أهمية أكبر لحلفائها الذين نأوا بأنفسهم عنها في صراعها الراهن مع موسكو.
وعليه، فإنّ الأسئلة التي سوف ينكب الجميع على تقديم الأجوبة الدقيقة عنها، هي الآتية:
أوّلاً، أيّ موقف أميركي سوف يتبلور في الشأن السوري؟
ثانياً، هل سيبقى هاجس الاتفاق مع إيران على ملفها النووي، من دون أيّ اهتمام حقيقي وحاسم بأذرعها ونشاطاتها الخبيثة في المنطقة، على ما كان عليه حتى الأمس القريب؟
ثالثاً، هل التعاطي الأميركي مع الملف اليمني، سوف يستمر على قاعدة “ضربة على الحافر وضربة على المسمار”، خصوصاً بعدما بيّنت الدبلوماسية الخليجية، في ضوء الحرب الروسية على أوكرانيا، أنّها قادرة على استثمار النأي بالنفس لمصلحتها ضد “حوثيي” اليمن الذين “باعتهم” موسكو، في لحظة، في مجلس الأمن الدولي؟
من المبكر تقديم الأجوبة، إلّا أنّ المؤكد، في ضوء المعطيات الأخيرة، أنّ واشنطن بعد الحرب الروسية على أوكرانيا لا يمكن أن تبقى على ما كانت عليه قبلها، كما أنّ الدول المؤثّرة في الشرق الأوسط، إذا لم تحسّن واشنطن أداءها، لن تبقى أبداً أميركية الهوى.