“ثوروية” محمّد بن سلمان من الإسلام الى إسرائيل
بقلم: فارس خشان

حصيلة الحوار الذي أجراه وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع مجلّة “ذا أتلانتيك” الأميركية ليست بسيطة، لأنّها تجيب، بصورة جليّة، عن الأسئلة الكثيرة حول “السعودية الحديثة” التي لا يتوقّف عن طرحها جميع من يلاحقون أخبار المملكة أو يزورونها أو يعيشون فيها أو يعتاشون منها.

وعلى الرغم من جاذبية التبحّر في مسائل كثيرة مثل الكلام عن طبيعة النظام الملكي السعودي، إلّا أنّه لا يمكن، في ضوء التمعّن في مضمون هذه المقابلة الصحافية، القفز فوق خمسة عناوين أساسية: الإسلام، العلاقة السعودية-الأميركية في عهد الرئيس جو بايدن وتداعياتها على العلاقات السعودية-الصينية، تصوّر العلاقة المستقبلية بين السعودية وكل من إسرائيل وإيران، والعلاقة العضوية بين مكافحة الفساد واعتقالات فندق “ريتز” الشهيرة، والدروس التي تمّ استخلاصها من اغتيال الصحافي جمال خاشقجي.

وإذا كانت العناوين السياسية التي فصّلها ولي العهد السعودي في هذا الحوار الصحافي، متروكة نتائجها المستقبلية لديناميات التطوّر والتفاعل ومفاجآت الزمن، فإنّ المجتمع الدولي عموماً والمجتمع السعودي خصوصاً، بدوَا مهتمّين جدّاً بالمقاربة التي قدّمها الأمير محمّد بن سلمان، من موقعه القيادي، للدين الإسلامي ومدى مواءمة تعاليمه وأحكامه ومبادئه مع التطور السريع الذي تشهده المملكة العربية السعودية الطامحة، وفق معطيات خطة 2030، إلى استقطاب مائة مليون سائح سنوياً.

قبل هذه المقابلة، كانت الدعوات الى وجوب اعتماد “الإسلام المعتدل” لا تتوقّف، على اعتبار أنّه الدواء لداء “التطرّف الإسلامي” أو ما يسمّيه الغرب بـ “الإسلام السياسي”، ولكنّ ولي العهد السعودي رفض هذا المصطلح واعتبره خدمة للمتطرّفين لأنّه يوحي بأنّ هناك من يريد صناعة إسلام جديد، معلناً تركيز جهوده على وجوب استرداد “الإسلام النقي” الذي “أرشدتنا تعاليمه إلى أن نحترم جميع الثقافات والديانات. وهذه التعاليم كانت مثالية، ونحن راجعون الى الجذور، إلى الشيء الحقيقي”.

بالنسبة إليه إنّ المعضلة التي وقعت فيها المجتمعات الإسلامية تكمن في “أنّ المتطرفين اختطفوا الدين الإسلامي وحرّفوه، بحسب مصالحهم، حيث إنّهم يحاولون جعل الناس يرون الإسلام على طريقتهم، والمشكلة هي انعدام وجود من يجادلهم ويحاربهم بجدية، وبذلك سنحت الفرصة لنشر هذه الآراء المتطرفة المؤدية الى تشكيل أكثر جماعات الإرهاب تطرّفاً، في كل من العالمين السنّي والشيعي”.

وترجمة لذلك أنجزت السعودية، في السنوات القليلة الماضية، خطوة وهي في طور العمل على إنجاز خطوة جديدة.

الخطوة التي تمّ إنجازها، ويمكن التأكد منها، بالعين المجرّدة عندما تتجوّل في السعودية، تتجلّى في الآتي: “إن كنت أجنبيّا يعيش في السعودية أو مسافرًا فيها، فلك الحق في فعل ما تريد، بناءً على معتقداتك، أيّا كانت هذه المعتقدات، ولكن وفق الأنظمة، وهذا ما حدث في زمن الرسول وزمن الخلفاء الراشدين الأربعة. فلم يُطبقوا القوانين الاجتماعية على غير المسلمين، بغض النظر عمَّا إذا كانوا مواطنين أو مسافرين عبر بلادهم”.

أمّا الخطوة التي وعد ولي العهد السعودي بإنجازها، خلال سنتين، فتتمثّل في نزع سلاح الأحاديث النبوية “غير المثبتة” من أيادي المتطرّفين، ويقول: “المصدر الأساسي للانقسام في العالم الإسلامي، بين المسلمين المتطرفين وبقية المسلمين، عشرات الآلاف من الأحاديث، والغالبية العظمى منها لم تُثبت،

ويستخدمها العديد من الناس كوسيلة لتبرير أفعالهم، فعلى سبيل المثال، تنظيما القاعدة وداعش يستخدمان الأحاديث النبوية الضعيفة جدّا، التي لم تثبت صحتها، لإثبات وجهة نظرهم. وهذا ما نحاول تحديده ونشره، لتثقيف العالم الإسلامي حول طريقة استخدام الحديث، وهذا سيُحدث فارقًا كبيرًا، ويحتاج إلى الوقت، ونحن في المراحل النهائية، وأعتقد أنه يُمكننا إخراجها ربما بعد عامين من اليوم”.

ولكن أكثر ما يلفت الاهتمام، في العنوان الإسلامي من هذا الحديث الصحافي، كان في مناقشة الأمير محمّد بن سلمان مسألة الموسيقى التي أصبحت متاحة في السعودية، وركناً أساسياً من أركان برامج الترفيه التي تستقطبها المملكة، الأمر الذي يثير اعتراض “القادة الدينيين”.

يشير ولي العهد السعودي الذي يدعم إقامة الحفلات الموسيقية في المملكة ويسمح بإطلاقها في المطاعم والمنتجعات السياحية الى أنّ “الموسيقى أمر مختلف عليه في الإسلام. وإذا كان متفقاً عليه عند المسلمين، فلدينا أمور في تعاليم الرسول تقول إن الضرورات تبيح المحظورات”.

ووفق الأمير محمد بن سلمان فإنّ الضرورات، بالنسبة إلى بلاده، تتجلّى في الآتي:” إذا كنت سأخفِّض معدَّل البطالة، وكانت السياحة ستوفّر مليون وظيفة في السعودية، وإذا كنت قادرًا على جعل ثلاثين مليار دولار لا تُصرف خارج السعودية، ويبقى معظمها في السعودية، كي لا يسافر السعوديون بنفس قدر سفرهم الآن، فيجب عليَّ فعل ذلك، حيث إنهم سيقومون بالسياحة خارج السعودية على أية حال، ولذلك لدينا أمرٌ ثالث نقوله: اختر الضرر الأصغر بدلًا من الضرر الأكبر”.

“الثوروية” الدينية التي ميّزت حديث ولي العهد السعودي، لم تغب عن طريقة حديثه عن العلاقة التي تربط بلاده، حالياً، بإدارة الرئيس جو بايدن، فهو قال إنّه “لا يهمّه” أن يعرف بايدن عنه شيئاً قد لا يعرفه، إذ إنّ الشيء الوحيد الذي عليه أن يعرفه هو مصلحة الولايات المتحدة الأميركية، على اعتبار أنّ “هناك أشخاصاً آخرين سيكونون سعداء للغاية، بتدهور العلاقات الأميركية-السعودية”.

وعندما سئل إذا كان يقصد بذلك الصين، أجاب:” السعودية واحدة من أسرع البلدان نموًّا في العالم، وستُصبح قريبًا جدًّا البلد الأسرع نموًّا في العالم. لدينا اثنان من أكبر عشرة صناديق في العالم، والمملكة تمتلك واحدة من أكبر الاحتياطيات بالعملة الأجنبية في العالم، والسعودية لديها القدرة على تلبية 12% من الطلب على البترول في العالم، والسعودية تقع بين ثلاث مضائق بحرية: مضيق السويس ومضيق باب المندب ومضيق هرمز، وتطل على البحر الأحمر والخليج العربي، ويمر من خلالها 27% تقريبًا من التجارة العالمية، وإجمالي الاستثمارات السعودية في أمريكا هو 800 مليار دولار، وفي الصين، حتى هذا الوقت، استثمرنا أقل من 100 مليار دولار، ولكن يبدو أنها تنمو هناك بسرعة كبيرة، كما أنّ لدى الشركات الأمريكية تركيزاً كبيراً على المملكة العربية السعودية إذ لدينا أكثر من 300 ألف أمريكي في السعودية، وبعضهم يحملون كلتا الجنسيّتين، ويقيمون فيها، والعدد يزداد كل يوم، لذا فالمصالح واضحة، والأمر يعود لكم سواء أكنتَ تريد الفوز بالسعودية أم الخسارة”.

وبطبيعة الحال يقود الكلام عن العلاقات الأميركية-السعودية الى قضية قتل الصحافي جمال خاشقجي.

لم يكشف ولي العهد أسراراً في حديثه، ولكنّه تحدّث عن “نهج جديد” في التعاطي مع ملفات مماثلة، بلغة تحمل مقوّمات “التوبة”، فلفت إلى “أنّنا بذلنا قصارى جهدنا لإصلاح النظام والتأكد من عدم حدوث ذلك مرة أخرى. لقد عانينا، وكان خطأ كبيراً”.

وفي موضوع اعتقالات الريتز، لم يكشف الأمير محمّد بن سلمان جديداً أيضاً، ولكنّه تحدّث عن وظيفة “وطنية” للإجراءات التي اتُخذت، بهدف تحرير النمو من معتقل الفساد، فقال:” لقد كانت وبوضوح محاولة إيقاف مشكلة ضخمة في السعودية، ففي كل ميزانية، هناك نسبة عالية تذهب للفاسدين، لن يكون لدينا نمو بنسبة 5.6% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، ولن تكون لدينا زيادة 50% من الاستثمار الأجنبي في السعودية في 2021م لو استمر الفساد، ولن يكون هناك وزراء أكفاء، ولا أشخاص بارزون أكفاء يعملون في الحكومة ويكافحون ليل نهار، ويعملون على مدار اليوم، مالم يعتقدوا أنهم يسلكون طريقًا قويمًا ومشروعًا، وهذا لن يحدث طالما كان هناك فساد في السعودية.”

وفي موضوع مستقبل العلاقات مع إسرائيل، لم يخرج ولي العهد السعودي عن مندرجات مبادرة السلام التي تبنّتها قمة بيروت العربية، ولكنّه استعمل مصطلحات غير مسبوقة، كحديث عن إمكان أن تكون السعودية وإسرائيل في حلف مشترك، وقال:” إنّنا لا ننظر الى إسرائيل كعدو، بل ننظر لها كحليف محتمل في العديد من المصالح التي يمكن أن نسعى لتحقيقها معاً، لكن يجب أن تحل بعض القضايا قبل الوصول الى ذلك” متحدّثاً عن الأمل في حلّ “المشكلة” بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

وفي مسألة العلاقات مع إيران، لم يتضمّن كلام الأمير محمّد بن سلمان أيّ تعابير معادية، بل أفسح في المجال أمام مزيد من التواصل من أجل التوصّل الى “حل للأمور وسبل للتعايش تشكّل مستقبلاً مشرقاً” مع من وصفهم بـ”جيراننا الى الأبد”.

إنّ المملكة العربية السعودية، أحببتها أو كرهتها، عاديتها أو حالفتها، هي ركن أساسي ليس في الاستقرار الإقليمي فحسب بل في الاستقرار الدولي أيضاً.

وولي عهدها الأمير محمد بن سلمان، شئت أو أبيت، أدخل السعودية في عصر جديد. البعض يعتبره مغامراً، والبعض الآخر يجده ثائراً، ولكنّ الجميع يرون أنّ ما ذهب ويذهب إليه هو ضرورة لا بدّ منها.

في حديثه الى “ذا أتلانتيك” لم يكن رجل السعودية القوي “فيلسوفاً” يحلم ب”الجمهورية الفاضلة”، بل كان سياسياً قيادياً، يتجاوز كلّ المحظورات من أجل إباحة ضرورة وحيدة: صناعة المستقبل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى