على خطى أهل العرفان في الزاوية الزيانية القندوسية

No description available.

النشرة الدولية –

نزهة عزيزي –

على متن طائرة العودة إلى فرنسا أواخر شهر جانفي، كنت أحاول جمع كل ما دونته لكتابة مقالات مختلفة ومتنوعة إستلهمتها من عطلتي الشتوية  ببشارعاصمة  الجنوب الغربي الجزائري. بعد غياب قهري دام ثلاث سنوات نتيجة جائحة كورونا وإستعصاء العودة للجزائر وغلاء أسعار التذاكر وغلق المجال الجوي ، والتدابير الصحية التعجيزية التي حالت بيني وبين زيارتي لها. كانت أولى محطاتي هي مدينة القنادسة مسقط رأسي، التي تبعد عن بشار حوالي 25كلم   فتتوقفت عند الخزانة الزيانية القندوسية التي أنشأت منذ بناء الزاوية القندوسية الزيانية على يد الشيخ العارف سيدي امحمد بن بوزيان وهو علم من أعلام الصوفية في الجنوب الغربي الجزائري في سنة 1686 م /1098 هجري.

زرت الخزانة  برفقة والدي الذي يحدث أن يلقي محاضرات بها في شهر رمضان إلا أن الوباء قطع تواصله بهذا الفضاء الثقافي الذي يستعيد أنواره التاريخية كمنبر لتلقي العلم والمعرفة أثناء شهر رمضان. المراد بكلمة (خزانة) في لسان سكان مناطق الجنوب الجزائري: المكتبة الشعبية التي تحتوي على عدد من الكتب المخطوطة سواء أكانت هذه الخزانة داخل القصر أو في المسجد أو في بيت من البيوت.

فكان في إستقبالنا  السيد سيدي مبارك طاهري وهو مرابط سليل الشيخ سيدي أمحمد بن بوزيان وهو القيم على الخزانة ببشاشته وبساطته وكرمه ، فهو لم يكن يفتح لنا أبواب صرح شيده أجداده فحسب بل كان يفتح لنا سراديق وأبواب الذاكرة الجماعية الموصدة على نفسها ، ذاكرة إنسانية خط فيها الإنسان  الدارس والعارف طرق السمو بالعقل والفكر والروح معا. سررت بإكتشاف كنوز مخطوطات قديمة عمرها يفوق ثلاث قرون، تشتمل على علوم كثيرة التاريخ، الفقه، البلاغة والبيان ….الخ.وانا أتجول داخل ردهات الخزانة التي تحول جزء كبير منها لقاعة محاضرات والى متحف جعلني أتوقف عند جدارية شملت صور كل المبدعين والكتاب الذين ضاع صيتهم خارج الجزائر أمثال ياسمينة خضراء ومليكه مقدم، عبدالله عزيزي،  محمد البصري .. وغيرهم ،أقلام لم تحظى كلها بأضواء الشهرة لكنها تعكس فعلا مدى ثقافة وإبداع  أبناء هذه البلدة الصغيرة التي كانت  ولا تزال بلد علم وعرفان تجدرت فيها طرق الصوفية الزيانية  . فالقنادسة داع صيتها في الحقبة الاستعمارية  كأول منجم فحم أقامته فرنسا في الجنوب الجزائري وإستغلت سواعده لدرجة أن أثر تلك الحقبة المريرة مازالت ظاهرة على مدينة القنادسة ،فالزائر لها لاول مرة لا يمكن أن لا يتوقف عند مدخلها حيث يقبع منجم الفحم واكوام الفحم التي مازالت تشهد على مدى أهمية القنادسة التاريخية كمصدر للثروة الاستعمارية والتي مازالت شذرات الفحم تسمم هواءها إلى اليوم.

نزلت خلال لحظات طوال ضيفة على مكان مقدس إرتابته خطى أهل العرفان قبلي منذ آلاف السنين، إنتباتني سكينة في الروح وهدأ صخب حياتي الفرنسية  بداخلي ، كنت أعبر إلى صحرائي كما عبرها الكاتب الجزائري عبد الوهاب معوشي، وإبراهيم الكوني وإزايبل إبرارد، كان لي موعد مع  شساعة الصحراء التي تملأ الروح والوجدان  وتفرغ أغوار النفس من  المادة وتملأك  بالله وحده، تذكرك بأنه في السماء والهواء والرمل وفي كل شيء، تذكرك  أنك قطرة تسبح و تعود إلى مجراه، وبأن العودة إليه راحة من التيه، هنا مسالك العارفين بالله تشعبت وتشبعت بالمحبة وإلتقت تحت منارة سيدي امحمد بن بوزيان ذلك الصوفي الذي مازالت آثاره واقفة تشهد على مدى عظمته التي جعلت من زاوية القنادسة قبلة إفريقيا السوداء في طلب العلم في زمن ما ، أتطلع على صورهم وأتوقف عند سيرهم التي لم يتوانى سيدي مبارك طاهيري على تعليقها والاشادة بها على جدرانها . وإغتبطت عيناي وأنا أرى صور أجدادي من بين الوجوه التي تتلمذت على أكبر مشايخ  الخزانة وزاوية سيدي محمد بن بوزيان. كانت منافذ النور داخل الخزانة تنفد بداخلي فانتابني نفس الشعور الذي جعلني أرتاح في الرياض المراكشية ربما كان ذلك مفتاح من مفاتيح الكيمياء التي ربطتني بمراكش في أول زيارة لي لها في بداية جائحة كورونا.

ناهيك عن كون الخزانة معلم تاريخي يجب على السلطات المعنية الحفاظ عليه كتراث إنساني ثري بل وتثمن كنوزه التي مازال الكثيرمنها حوالي 700 مخطوط  في فرنسا بعدما تم السطو عليها أثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر وعلى الدولة الجزائرية أن تسترجع المخطوطات التي نهبت في تلك الفترة، ومازال الكثير منها موجود في مدينة اكس اون بروفانس في جنوب فرنسا على حد قول سيدي مبارك الذي يقاوم وحده شراسة التهميش والنسيان التي طالت هذا الكنز الوطني الذي يعني كل الجزائريين. وليس فقط سكان القنادسة وحدهم.

إن الخزانة معلم تاريخي لا يتجزأ من القصر القديم بالقنادسة رغم أن القصر القديم إستفاد من مبالغ الترميم وإعادة البناء إلا أن سوء تسيير أموال الترميم   لم تخصص كلها للترميم مما جعل عملية الحفاظ على هذا التراث مستعصية فالترميم يتطلب دراسة وتنقيب وهو علم قائم في حد ذاته. لذلك لم يشرك أهل الاختصاص من باحثين وانثربولوجيين ومهندسين و مختصين في الترميم في مشروع إعادة إحياء بيوت القصر القديم فالحفاظ على نفس مواد البناء ودراسة ماكان عليه القصر أمر في غاية الأهمية من أجل الحفاظ على طابعه القديم بصيانة عصرية وتمويل الصيانة  لا يقل أهمية عن الترميم نفسه. ومن هذا الجانب ذكرنا سيدي مبارك بأن رقمنة المخطوطات مشروع مشترك بين جامعة بشار والخزانة بغرض الاحتفاظ بالمخطوطات ساري المفعول ويتطلب دعم من السلطات.

لا أنكر أن توقفي عند هذا المعلم دفعني للبحث  عن تاريخ بناء القصر القديم والزاوية بالخصوص لأن الخزانة هي المكتبة التي خصصت لطلاب العلم في تلك الفترة. ولا يمكن أن لا أشيد برواية آخر صوفي لمدينة القنادسة للكاتب عزيزي عبدالله ومحمد البصري بكتابه إزابيل إبرارد وباسيدي لفقيه الذي تجسد شخصياتها وشخوصها حقبة من أهم الحقبات التاريخية ثراء لما لعبته الزاوية من دور في التلقين ونشر العلم  ومقاومة الجهل، ومازالت أنوارها مستمرة تقاوم الاهتراء والنسيان ومازالت الأقلام القندوسية تبهر العالم بإبداعها وتمارس فعل الكتابة عبر التاريخ.

No description available.

No description available.

No description available.

No description available.

No description available.

زر الذهاب إلى الأعلى