بوتين “المتعثِّر” في أوكرانيا “يستدعي” أوروبا الى طاولة “الروليت”
بقلم: فارس خشّان

النشرة الدولية –

مهما قدّمت كييف تنازلات تتقاطع مع الأهداف التي أعلنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتبرير الحرب التي يشنّها ضدّها، فلن يوقف الكرملين، كما بات واضحاً، هجومه قبل أن يُهيمن، بشكل محكم، على القرار الأوكراني.

هذه الحقيقة أظهرتها جلسة المفاوضات التي عقدها الوفدان الأوكراني والروسي في إسطنبول، حيث تعهّدت كييف، في ورقة رسمية، باعتماد الحياد ومنع إقامة قواعد عسكرية غربية على أراضيها وبقائها دولة غير نووية وإيجاد توافق لاحق حول وضعيتي شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس.

وقد بدا الوفد الروسي مرتاحاً للعرض الأوكراني، ولكنّه ترك الكلمة الأخيرة لفلاديمير بوتين الذي، سرعان، ما حوّل من موسكو التفاؤل الذي انبعث من إسطنبول إلى تشاؤم.

ولم تكن كييف قد فاجأت العالم في عرضها، إذ إنّه سبق لها أن أعلنت، على لسان رئيسها فولوديمير زيلينسكي، عدم إمكان انضمامها الى حلف شمال الأطلسي، واستعدادها للبحث في مستقبل الأقاليم الأوكرانية التي ضمّتها موسكو أو التي تسعى الى ضمّها.

ولكنّ الكرملين، وخلافاً للدعاية التي يروّجها عن “حاجته الإستراتيجية الملّحة الى حياد جارته”، تبريراً للحرب التي يشنّها، يعمل لسحب أوكرانيا الى دائرة نفوذه، إنطلاقاً من نظرية تعود الى زمن الأمبراطورية الروسية، حيث يتم النظر إلى كييف على اعتبارها “أمّ المدن الروسية”.

والحياد الذي تعرضه أوكرانيا لا يتماشى مع أهداف “القيصر” الحقيقية، ذلك أنّه، ومنذ وصوله الى الكرملين، يعمل، بلا هوادة، على إيجاد الظرف الملائم لإعادة أوكرانيا الى “الفلك الروسي”.

ففي العام 1994، وفي ضوء دفع كييف إلى التخلّي عن ترسانتها النووية، وقعت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا، مذكرة تفاهم في بودابست تقضي بأن تُدافع هذه الدول عن أوكرانيا، في حال تعرّضها لأيّ اعتداء.

وفي العام 2010، تخلّت كييف عن فكرة الإنضمام الى “حلف شمال الأطلسي” معلنة حيادها.

ولكنّ موسكو في العام 2014، وفي ضوء “ثورة الميدان” التي أرادت أن تنضم أوكرانيا الى اتفاق تبادل حر مع الإتحاد الأوروبي، شنّت حربها على شبه جزيرة القرم وعلى إقليم دونباس، فضمّت الأولى وعملت على دعم سيطرة مؤيّديها، في حرب مفتوحة، على الثاني.

ومع سقوط كل التعهدات الروسية، سعت أوكرانيا الضعيفة عسكرياً بالمقارنة مع روسيا القوية، الى الإنضمام إلى “حلف شمال الأطلسي” والى الإستعانة بالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، كموقعين على مذكرة تفاهم “بودابست”.

وعلى الرغم من الدعم العسكري المباشر الذي قدّمته موسكو لمؤيّديها الإنفصاليين في إقليم دونباس، إلّا أنّهم عجزوا عن السيطرة على أكثر من ثلث مساحة هذا الإقليم: 8900 كلم مربّع من أصل 26500 كلم مربّع في دونتسك، و8400 كلم مربع من أصل 26700 كلم مربّع في لوغانسك.

لكنّ الغزو الروسي لأوكرانيا وسّع دائرة سيطرة موسكو على إقليم دونباس، إلى حدود ثمانين في المائة حتى الآن، وفتح طريقاً يوصله بشبه جزيرة القرم، وأحكم هيمنته على بحر آزوف.

وإذا كان الهدف العسكري الذي وضعه بوتين لقواته الغازية والقاضي بالسيطرة على كييف وإسقاط سلطاتها قد تعثّر أمام المقاومة “المفاجئة” التي أبداها الأوكرانيون فانتزعوا احترام الغرب الذي رفع من وتيرة مساعداته الدفاعية لهم، فإنّه، وفق ما بات واضحاً، يعيد النظر بخطته العسكرية، بحيث يُركّز، في هذه المرحلة على السيطرة النهائية على شرق وجنوب أوكرانيا، ويدخل سائر البلاد في حرب تستنزفها وتغرق أوروبا بموجة هائلة من المهاجرين وتعرّض اقتصاديات دولها لمخاطر كبيرة بدأت تتلمّسها، الأمر الذي يمكن أن يعود بوتين ويستعمله لتحقيق هدفه الأساس: إحكام سيطرته على أوكرانيا لتكون الباب الذي منه يولج لإقامة الأمبراطورية الروسية الجديدة.

في الميدان، أسقطت المقاومة الأوكرانية الهيبة العسكرية لفلاديمير بوتين، وفي إسطنبول أسقطت الدبلوماسية الأوكرانية الحجج التي تستّر وراءها الكرملين لتبرير الحرب. حالياً، على حلفاء أوكرانيا الأوروبيين أن يُكملوا ما بدأته كييف، وقد فتح الرئيس الروسي الباب أمامهم ليفعلوا، عندما قرّر، وخلافاً للإتفاقيات المبرمة، أن يدفعوا ثمن الغاز الذي يصدّره إليهم، بالروبل الذي استعاد “عافيته” متأثّراً بهذا القرار المرفق برفع الفائدة الإيداعية الى مستوى عشرين بالمائة.

في واقع الأمر، إنّ خطوة بوتين ليست “مجنونة”، فهو يعرف “إدمان” الدول الأوروبية على غازه الذي يكبّدها، يومياً، ما يوازي ثمانمائة مليون أورو، وهو يدرك أنّ اللقاءات الأوروبية-الأوروبية والأوروبية-الأميركية، لم تسفر عن تلبية تطلّعات أوكرانية وشعبية أوروبية لوقف استيراد الغاز الروسي، بعدما جرى تصويره كما لو كان تمويلاً أوروبياً لآلة القتل الروسية، من جهة وإحباطاً لمفاعيل العقوبات غير المسبوقة التي تمّ فرضها على روسيا، من جهة أخرى.

ولكن هذه الخطوة التي تُمسك الدول الأوروبية من اليد التي تؤلمها يمكنها أن تتحوّل الى مناسبة لإنهاك بوتين، في حال أصرّ “الإتحاد الأوروبي” على قرار عدم دفع ثمن الغاز بالروبل، مستفيداً من عوامل عدة أهمّها اعتماده على نظرة موحّدة مع الولايات المتحدة الأميركية وسائر الغرب، وانتهاء موسم الشتاء بصفته المستهلك الأكبر للغاز، ودفعه المسبق ثمن الكميّات المتّفق عليها لما تبقّى من العام 2022، واستعداد شعوبه للتضحية بشيء من الرفاهية، في ضوء ما يرونه من نتائج مخزية إنسانياً للحرب الروسية على أوكرانيا، واعتبارها مجرّد نموذج عمّا يمكن أن يلحقه بهم بوتين، في وقت لاحق.

إذا نجحت أوروبا في تسريع تحرير نفسها من تبعيتها للغاز الروسي، مستندة الى نقاط القوة التي باتت تمتلكها، بعدما فتح الكرملين الباب واسعاً أمامها من خلال محاولة فرض الروبل، فإنّ أحلام بوتين الأمبراطورية قد تتحوّل الى كوابيس رئاسية، وهو يراقب كيف أنّ رهانه على الإدمان الأوروبي للغاز انقلب كارثة، ولو مؤقتة، عليه.

وموهوم كلّ من يعتقد بإمكان احتواء طموحات فلاديمير بوتين الخطرة على عموم القارة الأوروبية، من دون أن يبذل تضحيات جسام، مكتفياً برهانه على تضحيات الشعب الأوكراني.

إنّ أدبيات فولوديمير زيلينسكي، في إطلالاته الأخيرة، تُظهر ذلك، بشكل لا لبس فيه.

في الواقع، لقد استدعى بوتين الدول الأوروبية الى طاولة الروليت الروسية الشهيرة، وهي أمام خيارين لا ثالث له: إمّا المشاركة وتكبّد مخاطر الخسارة، وإمّا الإِحجام وترك بوتين يلعب…وحيداَ.

زر الذهاب إلى الأعلى