كيف “تنغّص” الدراما في تونس الفرحة بقدوم الشهر المعظّم؟

النشرة الدولية –

عربي 21  – بثينة عبد العزيز غريبي –

لا يغيب عنّا الضجّة التي أحدثها رجوع شريهان إلى التلفزيون، رمضان 2021، رغم أنّها لم تتعدّ المشاركة في ومضة إعلانيّة. لقد غيّب حضورها، الذي لم يدم دقائق، بطلات وأبطال الأعمال الدّرامية للموسم وحرمهم من “الترندات” بل كانوا الحاضرين الغائبين في حضرتها التي شغلت عامّة الناس طيلة الشهر الكريم وبعده. ولا يغيب عنّا كذلك تكريم نيللي خلال مهرجان القاهرة السّينمائي وما حرّكه من حنين ونوستالجيا الفرح.

وفي الحالتين، شريهان أو نيللي، نسب المتابعات مليونية على قنوات اليوتيوب، دون احتساب بقية مواقع التواصل الاجتماعي.

هل سألنا: لماذا حرّك حضورهما كل هذه الجماهير العربيّة سويّة وعلى اختلاف ثقافاتهم؟ أمّا اليوم فنتقاسم صور العتمة والظلام في أعمال درامية تحمل “جينات” مجتمعات مشوّهة الملامح. ويبرّرها المنتج أو الكاتب أو المخرج بـ: “يجب أن تكون الدّراما مرآة عاكسة للمجتمع.” ولنفترض أنّ الدراما فعلا كذلك، لماذا تعجز إذن عن أن تكون مرآة عاكسة لخصوصية الشّهر المعظم؟

لقد أصبحت أغلب الإنتاجات الدرامية في شهر رمضان المعظم “عشّا” لتفريخ الألم والمعاناة بدل ثقافة الحياة والفرح… والإنتاجات التّونسية لا تخرج عن هذه الدّائرة.

كيف تنغّص الدراما التونسية الفرحة بقدوم الشهر المعظّم؟

كنت تمر أمام أي بيت تونسي، تسمع الفرح، نعم يمكننا سماع الفرح أيضا. يتسمّر الجميع أمام التّلفزيون إمّا لمشاهدة الكاميرا الخفيّة أو سلسلة هزلية أو مسلسلا لا يخلو أيضا من طرح كوميدي ساخر ولا يخلو من خصوصيّة المجتمع التونسي الذي ما يزال يعترف بقيمة العائلة من خلال فعل الفرجة التلفزيونية. وفجأة “انفجرت” هذه البيوت وتحوّل أهلها إلى لاجئين على مواقع التّواصل الاجتماعي يتذمّرون من خلال تعاليقهم و”الترندات”، يتذمرون من الحالة التي أصبحت عليها الدّراما وأصبح عليها كلّ الإنتاج التّلفزيوني الدرامي. ويصحّ أن نقدّم له التعريف التّالي: هو إنتاج يستغلّ شهر رمضان المعظم لتحقيق الربح المادي وتلبية رغبات المؤسسات التّجارية والإشهاريّة، بتحفيز الجماهير على الاستهلاك بل المغالاة في الاستهلاك بجعلهم في حالة احتياج مستمرّة. وتبعا لذلك تنسى الجماهير خصوصيّة الشهر وأبعاده الروحانية وتحوّله إلى مناسبة للاستهلاك وإشباع الرّغبات بكل الوسائل المتاحة وهو ما يتنافى مع هذا الشهر الكريم. ويتنافى أيضا مع أولويات الإنسان خلاله. ونستحضر هنا استراتيجيات نعوم تشومسكي في علاقة بكيفية استخدام وسائل الإعلام للجمهور من أجل التضليل وتحقيق أجندات معينة. ومن بين هذه الاستراتيجيات: استراتيجية الإلهاء. فها هو المواطن التّونسي مثلا بعد أن كان يشغله الغلق النّهائي لمجلس النّواب قبل يومين فقط من انطلاق شهر رمضان المعظم، صار بفعل مسلسل: “براءة” مثلا ينشغل بقضايا محسومة في تونس منذ الخمسينات كقضية الزواج العرفي والزوجة الثانية.

إنّ هذه النوعية من الدراما لم تكتف بتعميق العزلة داخل العائلة الواحدة أوّلا من خلال جدل مفتعل وثانيا من خلال بثّ المخاوف لدى المرأة من إمكانات فتح نقاش الزوجة الثانية، بل عمق العزلة بين الفرد ومجتمعه، بينه وبين هويّته.

مواضيع الدراما التونسية…؟

دوّنت إحدى التّونسيات ساخرة: “لقد انتظرت بفارغ الصّبر قدوم شهر رمضان المعظم حتى أستمتع بالفرجة وأروّح عن نفسي، فإذا بي أبكي بين المشهد والمشهد…حتى أنّي احترت لم أبكي وعلى من أبكي من شدّة ما تحوّل البكاء إلى خبزي اليومي”.

بين الزواج العرفي والسرقة والقتل والعنف والاعتداء على الأطفال والحرقة تظل المشاهد غارقة في الظلامية. نحن لا نطلب من الدراما إنتاج مجتمع مغاير للمجتمع الموجود. ولكن الدراما أيضا هي فن وإبداع: ألا يمكن أن ينتج هذا الواقع المؤلم برمزيّة وجمالية تراعي حاجة الإنسان لأن يرى نفسه في صورة أفضل يتشبه بها ويتدرّب من خلالها على احترام خصوصية هذا الشهر. وربما هذا ما سبقتنا له الدراما التركية وهو وعيها بكيفية إهداء الألم جماليّا ولهذا نجحت هذه الدراما في استقطاب المشاهد التونسي حتى في الشهر الكريم الذي كان يحظى فيه الإنتاج المحلي بالأولويّة.

تشكل الفني لثقافة الألم في الدراما

إنّ ثقافة الألم مشكّلة في عناصر مختلفة من العمل الدرامي كالإضاءة مثلا… وهذا ينسحب على كل الأعمال الدّرامية المقدمة: أغلبية المشاهد تتفاوت فيها الإضاءة بين العتمة والعتمة. خوف بكاء عنف تهديد.. ومثل هذه الأعمال تبرمج مع توقيت الإفطار. وهو ما يجعل البعض يخير أعمالا هزلية معادة على أعمال درامية تراجيدية جديدة.

لو حصل مثلا ووجدنا أنفسنا أمام سلسلة هزليّة من الأعمال الجديدة، فلن نقدر على مشاهدتها من شدّة استسهالها للضحك واستبلاهها للمشاهد. يقال إن هذه الكوميديا مبنية على المواقف. وربما تهيأ للكاتب أنه اختلق مواقف مضحكة ولكن الجمهور صار على درجة من الوعي تمنعه من التّأثر “الغبي” بأعمال بدرجة “غبية” من السطحية.

ولرصد هذا الفقر الإنتاجي قمنا بملاحظة نشاط الجمهور على الفايسبوك فتبين أنه في الوقت الذي تبث فيه البرامج التلفزية الرمضانية يغرق المشاهد في الفايسبوك ينقد يسخر يعلق. على أن هناك من يهرب إلى الفضائيات العربية الأخرى أين قد يجد ضالته.

لماذا “يسعد” جزء من الدراما التونسية بإنتاج الألم و”تبارك” هدم ثقافة الحياة والفرح؟

لا نعتقد أنّ منتجي الدراما قراء أوفياء لشوبنهاور مثلا وما قاله في كتابه: “فن العيش الحكيم”: “إن عقارب ساعة الإنسان تتراوح بين الألم والملل.” فغاصوا في عمق هذا الفكر وأنتجوه ولا نعتقد أيضا أنهم من قراء برغسون أو فلاسفة الفرح. ولكن المعادلة بالنسبة لهؤلاء المنتجين سهلة وبسيطة وهي أنّ داخل كل إنسان معاناة ما، ألم يحتاج لمشاركته. أمّا كيف يتم تقديم هذا الألم، فهنا تكون المغالاة في الطرح مبررة بضرورة افتعال التشويق بأي ثمن حتى لو تم تقديم مجتمع مختلف تماما عن المجتمع الأصلي.

لنعترف أنه لم يعد المشاهد في تونس يتفاجأ من طرح بعض المواضيع التي لا تليق بخصوصية الشهر ولا تشبه المجتمع. بل صارت هي ماهية الدراما التونسية تحظى بمباركة جمهور يرفضها ولكن يتابعها فيزكيها دون وعي عند أكبر الشركات التجارية التي تضخّ مبالغ كبيرة لمثل هذه الأعمال المدمّرة لكل قيم المجتمع. هو اتفاق ضمني بين جزء من مجتمع يتعرّض للعنف المعنوي والمادّي منذ سنوات وصار يتلذّذ الألم كمازوشي وصادي في الآن ذاته، وبين صانع الدّراما الذي يفعل كل ما بإمكانه لتدمير الرّوح وتشويهها، أحيانا عن وعي وأحيانا عن جهل أيضا.

لم نر أي طرح بديل للموجود يجعلك تتطلع إلى المنشود هي روح العدمية وثقافة الألم والتعذيب. عملية جلد متواصلة للروح من مشهد إلى آخر، من تعنيف إلى آخر. وربما أيضا لأن الطرح التراجيدي أسهل بكثير من الطرح الكوميدي.

هل على الدراما في شهر رمضان أن تضحك المشاهد؟

يدعو سبينوزا إلى ضرورة التمييز بين السعادة والمتعة والفرح. فالسعادة تأتي من داخل الفرد والمتعة تفتك من الخارج أما الفرح أو البهجة فهي عملية بناء. وتتطلب عملية البناء المشاركة في الفعل. من هذا المنظور، نعم على الدّراما في شهر رمضان المعظم أن تساهم في بناء الفرح الذي هو يتأصل فينا بطبعه مع هذا الشهر. أو على الأقلّ أن تحافظ على طابع هذا الشهر فلا نكلفها مسؤولية فن لا تقدر عليه ربّما. ففن الإضحاك أكثر صعوبة من الفنون الأخرى خاصة اليوم في ظل المتغيرات المحلية والعالمية والأزمات التي تمر بها الدول ويتطلب طاقات إبداعية فريدة من نوعية قادرة على افتكاك الضحكة.

إن الشارع التونسي وكل الشوارع الإنسانية في حاجة إلى الضحك، الفرح. كان تشارلي تشابلن يطرح بحركاته البهلوانية قضايا وفرحا. إنّ الفرح احتياج وأولوية. لماذا إذن تخير الدراما تلبية احتياج تلذذ الألم وهو احتياج مرضي على أن تلبي احتياج الفرح وهو احتياج علاجيّ؟

زر الذهاب إلى الأعلى