هل ضاعت فرص التوصل لاتفاق نووي؟
بقلم: د. سنية الحسيني
النشرة الدولية –
بعد أن راج الحديث عن اختراق إيجابي طال المفاوضات النووية في فيينا خلال شهر آذار الماضي، وبعد أن تصاعد الحديث عن وجود اتفاق نووي بين أميركا وإيران شبه مكتمل، بانتظار القرار السياسي من قيادة البلدين، وكان ذلك تتويجاً لعام كامل وثماني جولات من المفاوضات، أصيبت العملية برمتها بإنتكاسة. جاءت تلك الانتكاسة في ظل تطورات الحرب الروسية الأوكرانية، وحالة الاستقطاب الدولي التي فرضتها معطيات هذه الحرب. وكانت روسيا مصدر تلك الشرارة التي أشعلت النار في ذلك الناتج التفاوضي المهم، وذلك بعد أن استشعرت قرب الاتفاق، فاشترطت عدم تأثيره على علاقتها الاقتصادية مع إيران، في ظل العقوبات الاقتصادية الغربية التي تخضع لها. وتوقفت الجولة الثامنة والأخيرة من المفاوضات النووية في الثاني عشر من شهر آذار الماضي، بسبب تلك الضمانات المكتوبة التي اشترطتها روسيا لإعفاء أي شراكة بينها وبين إيران من عقوبات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، التي فرضت عليها على إثر الازمة الروسية الأوكرانية الحالية. وتبدو روسيا المستفيد الأول من تراجع فرص إبرام الإتفاق في هذا الوقت بالذات، الذي يحمل توقيعه فوائد جلية لطرفي الإتفاق. ورغم غياب تلك المشكلة بعد ذلك، وتراجع روسيا عن شرطها، بقيت قضية إبرام الإتفاق تراوح مكانها لأسباب أخرى، تتمسك بها إيران، الأمر الذي يعكس تنسيق إيراني روسي ضمني، ويمنح إيران فرص أكبر للمساومة لتحصيل نتائج أكبر، في ظل عدم ثقتها بالغرب.
جاءت المفاوضات غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران في فيينا في السادس من شهر نيسان من العام الماضي، لاعادة احياء الاتفاق النووي الذي وقعته الإدارة الأميركية في عهد الرئيس باراك أوباما عام ٢٠١٥، والذي دخل حيز النفاذ في العام التالي. وتبنت الدبلوماسية المتعددة الأطراف إدارة المفاوضات غير المباشرة طوال العام الماضي، حيث قام الاتحاد الأوروبي بقيادة انريكي مورا بتنسيق وترتيب هذه المفاوضات، بينما كانت الصين وروسيا وألمانيا وفرنسا وانجلترا الوسطاء والشركاء في العملية. وسعت إدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن لإحياء هذه العملية التفاوضية بهدف استرجاع الاتفاق النووي مع إيران لعام ٢٠١٥. وكان الرئيس دونالد ترامب قد انسحب من الاتفاق وفرض عقوبات إضافية على إيران عام ٢٠١٨. وأكد روبرت مالي المكلف بادارة الملف الإيراني في الإدارة الأميركية الجديدة، بأن إيران حققت نتائج إيجابية بعد احجامها في العام ٢٠١٩ عن تنفيذ التزامتها في اطار ذلك الاتفاق. واعتبر مالي أن إيران حققت تطوراً ملحوظاً في اطار قدراتها النووية، كما أنها واصلت اختراقاتها الإقليمية العسكرية ووسعت من تمركزها في المنطقة، بالإضافة إلى أنها نجحت في التجاوز عن العديد من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، بفضل تطوير علاقاتها مع روسيا والصين، الندين والمنافسين الحقيقيين للولايات المتحدة ليس في منطقة الشرق الأوسط فقط، بل على مستوى العالم.
خلال الشهر الماضي، بدأ الحديث عن وجود مسودة إتفاق شبة جاهزة مكونة من ٢٧ صفحة، تضم تفاهمات أميركية إيرانية حول جوانب فنية وخطوات على إيران أن تقوم بتنفيذها كي تعود لالتزاماتها بالاتفاق الأصلي الموقع عام ٢٠١٥، والتي تضع قيوداً على تطور برنامجها النووي، مقابل رفع العديد من العقوبات التي وضعتها الولايات المتحدة في عهد ترامب. وقطعت المفاوضات بين البلدين خلال العام الماضي شوطاً مهما في تحديد العقوبات التي سيتم رفعها، والتي لم تشمل فقط تلك التي صاحبت الإتفاق النووي عام ٢٠١٥، بل تجاوزتها بالتفاهم برفع عقوبات إضافية فرضتها إدارة ترامب على خلفية تتعلق بقوانين الإرهاب وحقوق الانسان. ويبدو أن طرفي التفاوض تجاوزا الكثير من القضايا الخلافية لصالح الوصول لإتفاق، على رأسها على سبيل المثال تراجع إيران عن شرطها بأن يكون الاتفاق معاهدة ملزمة تستوجب موافقة مجلس الشيوخ بأغلبية الثلثين، وهو بالأمر المعقد، خصوصاً في ظل تزايد الأصوات المعارضة للاتفاق في مجلسي الكونجرس. وبالمقابل تراجعت الولايات المتحدة عن رغبتها بربط الإتفاق النووي بقضية الصواريخ البالستية الإيرانية وتمدد إيران الإقليمي. وهكذا نجحت أميركا وإيران في إزالة العديد من العقبات، التي حالت دون وصولهما لإتفاق طوال العام الماضي.
من الواضح أن الوصول لاتفاق بين الولايات المتحدة وإيران يصب الآن في مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، وإمكانية دخول إيران للتخفيف من أزمة الطاقة الموجودة حالياً بسبب تلك الحرب، سواء كمورد أو كطريق موصل. كما يعد الإتفاق في الوقت الراهن فرصة لإيران لاحداث اختراق اقتصادي مهم، في ظل إمكانية دخولها إلى سوق الطاقة، لتحقيق نوع من التوازن لتعويض النقص في امدادات الطاقة الروسية. يأتي ذلك في ظل بدء تنفيذ إيران وأذربيجان وتركمستان لاتفاقية الغاز نهاية العام الماضي، والذي سيصل من خلالها الغاز التركمستاني إلى أذربيجان عبر الأراضي الإيرانية. وترتبط أذربيجان بالسوق الأوروبية من خلال خط أنابيب يمر عبر تركيا. ويعتبر الاتفاق فرصة لإيران لاقتحام سوق الطاقة سواء كمورد أو كطريق للمواصلات تجاه أوروبا، وهو حلم طالما رواد صانع القرار الايراني، خصوصا بعد أن حرمتها الولايات المتحدة من تنفيذ ذلك الحلم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بقطعها لفرص انخراطها في مشاريع الطاقة في منطقتها، والتي تعد فيها إيران ثقلاً انتاجياً واستراتيجياً لا يمكن اغفاله. وعطلت الولايات المتحدة بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي صفقات بين إيران وأوكروانيا وأذربيجان لنقل البترول وبناء خطوط لنقل الغاز، واستبعدتها من مشاريع نقل الطاقة الإقليمية بين دول القوقاز وأسيا إلى أوروبا عبر بحر قزوين والبحر الأسود الذي تم إطلاقه في ذات الوقت، فبقيت إيران بعيدة عن هذا النوع من المشاريع العملاقة بأمر أميركي وتعاون أوروبي، طوال العقود الثلاثة الماضية، رغم أهميتها ومكانتها الإقليمية والاستراتيجية في اطار تلك المشاريع.
ورغم اعتراض كل من إسرائيل ودول الخليج على توقيع الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران، الا أنه بات من الواضح أن البدائل الأخرى، بما فيها حروب السايبر والهجمات المتفرقة، لم تنجح في تقويض القدرات النووية والتمدد الإقليمي الإيراني، وتفتح الباب أمام انحدار الأوضاع نحو حرب إقليمية غير مرغوب فيها. وتشير التقديرات إلى عدم وجود خيارات فاعلة لتقويض التطور النووي والصاروخي الإيراني وتمددها الاقليمي حتى الآن سواء لدى الولايات المتحدة أو لدى إسرائيل، الأمر الذي يفسر خفوت معارضة الطرفين الإسرائيلي والخليجي للاتفاق، خصوصاً في ظل تركيز إسرائيل في المرحلة الحالية على تطوير الجدول الزمني لالتزامات إيران النووية بموجب الاتفاق السابق، أخذاً بالاعتبار سنوات تعليقه، ومساعي إيران لتحسين علاقاتها مع دول الخليج. وأثبتت التجارب أنه في ظل تقليص الضغوط الاقتصادية على إيران، تنخفض حدة أعمالها الهجومية في المنطقة، فلم تشهد منطقة الخليج العربي على سبيل المثال أية هجمات على الناقلات التجارية والنفطية ما بين عامي ٢٠١٥ و٢٠١٩، هذا بالإضافة إلى التزام إيران بقيود الاتفاق النووي الذي وقعته مع إدارة الرئيس أوباما خلال فترة سريانه، الأمر الذي حد من تطور الملف النووي الإيراني خلالها. كما تم رصد توجهات الشارع الإيراني المؤيدة للتيار الإصلاحي الإيراني على حساب التيار المحافظ، خلال سنوات سريان مفعول الاتفاق النووي.
ورغم المعارضة الشرسة في الولايات المتحدة من قبل السلطة التشريعية لابرام الاتفاق، والتشريعات المختلفة التي أقرتها تلك السلطة لتكبيل قدرة السلطة التنفيذية في إبرام اتفاق نووي مع إيران شبيه بذلك الذي وقع عام ٢٠١٥، بدءاً بقانون “مراجعة الاتفاق النووي مع إيران لعام ٢٠١٥” والذي جاء في أعقابه مباشرةً، وانتهاءاً بالقانون الذي أقره الكونغرس يوم الأربعاء الماضي، والتي تتطلب ضرورة وجود أغلبية الثلثين لاجهاضه، في الكونجرس، أي أنها عملياً لا تقوى على تعطل توقيع الاتفاق بشكل عام، اذا حسمت إدارة بايدن أمرها بالمضي قدماً لتوقيع الاتفاق. ويعارض قانون الكونجرس الذي أقر الأسبوع الماضي إتفاق نووي لا يتطرق لنشاط إيران الإقليمي وبرنامج صواريخها البالستية، ويشدد على ضرورة عدم رفع الحرس الثوري عن لوائح “الإرهاب”، وإبقاء العقوبات على البنك المركزي الإيراني والحرس الثوري. ولا يلزم ذلك التشريع إدارة بايدن، اذ لا يتطلب توقيع البيت الأبيض على اتفاق نووي جديد موافقة الكونغرس على الاتفاق في حال حصوله. الا ان توقيع الولايات المتحدة لاتفاق نووي مع إيران الآن يعد الوقت الأنسب قبل الدخول في تبعات نتائج انتخابات التجديد النصفي في شهر تشرين ثاني القادم، والتي قد تكون في غير صالح الإدارة الحالية، حيث تعارض الغالبية العظمى من النواب الجمهوريين إبرام اتفاق نووي مع إيران. ويبدو أن التفاهمات بين الولايات المتحدة وإيران ليست بالأمر المستحيل، وتحتاج بالفعل إلى قرار سياسي. فرفع الحرس الثوري عن قائمة “الإرهاب” أمراً ممكناً، اذ ربطت الولايات المتحدة ذلك في البداية بتحجيم تطوير صواريخها البالستية وتوسيع نفوذها الإقليمي، ثم بعد ذلك قبلت بربطه بترجع إيران عن نيتها اغتيال مايك بومبيو وزير الخارجية السابق وجون بولتون المستشار السابق للأمن القومي، وقيادات عسكرية أميركية سابقة أخرى، متورطة باغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس مطلع العام ٢٠٢٠. ولا يتطلب رفع الحرس الثوري الإيراني عن قوائم “الإرهاب” موافقة السلطة التشريعية، تماماً كما حدث عندما قررت وزارة الخارجية الأميركية رفع الحوثيين عن تلك القائمة.
رغم تجاوز المفاوضات عقبة تدخل روسيا واشتراطها عدم تأثير الاتفاق الجديد على علاقتها الاقتصادية مع إيران في ظل العقوبات الأميركية الأوروبية على روسيا، في أعقاب تدخلها في أوكرانيا، صعدت إلى السطح مشكلة الحرس الثوري الإيراني، الذي بات العقبة الرئيسة في توقيع الاتفاق. على الرغم من أنه يمكن تفهم إصرار إيران اليوم على ضرورة رفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة “الإرهاب” في الولايات المتحدة، نظراً لأن الحرس جزءاً مهم من الجيش الإيراني الرسمي، والجناح المقرب من المرشد الأعلى للبلاد، والمتحكم وحده بثلث اقتصادها، وإبقائه خاضعاً للعقوبات الأميركية من شأنه الحد من النتائج العامة الإيجابية لرفع الحصار الاقتصادي، الا أن إصرار إيران على ذلك الشرط الآن يعطي الانطباع بأنها تستغل الأزمة التي تمر بها الولايات المتحدة والدول الأوروبية في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، لتحصيل أكبر قدر من المكاسب في ظل هذه المفاوضات مع الولايات المتحدة، مؤمنة ظهرها بعلاقاتها الروسية الصينية.
في ظل تطور العلاقات الروسية الإيرانية خلال السنوات الأخيرة الماضية، لعبت روسيا دورًا مهمًّا في الوقوف إلى جانب إيران في الحفاظ قدر الإمكان على الصفقة النووية، كما عملت على مساندة إيران على طاولة المفاوضات في إطار دورها كوسيط. وتضمن روسيا إيران في إطار التزاماتها ببنود البروتوكول الإضافي وبعض الجوانب الفنية التي تتعلق بالاتفاق النووي. ولدى روسيا مصلحة بابرام الاتفاق النووي ضمن المعطيات الحالية، فناهيك عن أهمية ذلك أمنياً على حدودها الجنوبية، يضمن الاتفاق بقاء روسيا ضمن الاتفاق والتعاون مع الدول الغربية والوكالة الدولية. إن إحياء الاتفاق النووي خلال الفترة الراهنة لا يصبّ في مصلحة روسيا، لأنه في حال رفع العقوبات عن إيران، سيؤثر ذلك تلقائياً على امدادات الطاقة الروسية، خصوصاً لامتلاك طهران لثاني أكبر احتياطي للغاز في العالم بعد روسيا، الآمر الذي يرجح مساعي روسيا للموازنة بين مصالحها وبين علاقاتها الاستراتيجية مع إيران. وفي كل الحالات ليس هناك مؤشرات مقنعة بأنه حتى في حال توقيع إيران للاتفاق النووي الإيراني سيعني بالضرورة نجاح المساعي الأميركية بإمكانية احتواء إيران او كسبها إلى جانبها، في ظل العداء القائم بين البلدين والعلاقات الاستراتيجية التي تربط إيران مع الصين وروسيا، الأمر الذي يرجح وجود تنسيق بين إيران وروسيا والصين في إطار تطورات المفاوضات النووية، خصوصاً في ظل الوقت العصيب الذي تمر به البشرية حالياً.