الدور المغيب للنخب في العالم العربي
بقلم: د. نادية عويدات

النشرة الدولية –

الحرة –

لطالما لعبت النخب، وخصوصا الفكرية والثقافية منها، دورا مهما، لا بل مصيريا في حياة الشعوب. فالأفكار التي يتداولها الناس تقرر ليس فقط مصيرهم فحسب، بل مصير كل من تتقاطع طريقه مع المؤمنين بفكر هذه النخب. لكن الأفكار لا تتساوى في إنسانيتها أو في تأثيرها الإيجابي في حياة الناس.

خذ على سبيل المثال تأثير أفكار الشيوعية والتي أدت في أوروبا إلى ثورات هزت عروشا دامت قرونا.

فمثلا الثورة البلشفية أنهت حكم قياصرة روسيا وأدت إلى انهيار فكري وحضاري تم فيها استبدال حكم سلطوي بحكم آخر أكثر سلطوية وشراسة. واستخدمت الحكومات المتتابعة لغة شعبية حزبية لتضفي على نفسها شرعية بينما كانت تنشر الرعب في غرب البلاد وشرقها.

فستالين وحده كان مسؤولا عن قتل ملايين المواطنين الذين تبجح الحزب الشيوعي بأنه يمثلهم ويعمل من أجلهم، وباسم تطهير روسيا من النخب المتأثرة بالغرب ذي الأفكار غير المرحب بها مثل التعددية الحزبية وحرية الفكر والرأي، تم إنهاء حقبة فكرية أنتجت إرثا  إنسانيا هاما، تمثل في بروز أهم كتاب القرن، مثل ليو تولستوي وغيره. لكن التطهير الثقافي وأد هذه الحقبة بلا رجعة.

وأخذا أيضا بمثال الثورة الشيوعية في الصين، والتي كادت تقضي بالكامل على الإرث الصيني التقليدي من حرق للكتب القديمة والمكتبات وتدمير للمخطوطات القديمة، بل وكل ما يربط الصين بجذورها الثقافية العريقة.

وباسم الوحدة، صاحَب هذا التطهير قتلٌ وإسكاتٌ لكل معارض، لأنه لا يحق الوجود لأي صوت مخالف للحزب.

وهنا أيضا تمت التضحية بحياة الملايين بلا أي مساءلة أو حتى ذكر في كتب التاريخ الشيوعي الصيني، حيث ركز الحزب الحاكم على تطوير الدولة، وقد نجح في نواح كثيرة، ولكن رغم هذا التطور التكنولوجي والصناعي، تكاد تخلو الصين تماما من أي منظومة لحماية حقوق الإنسان، ولا توجد أقلية أدرى بوحشية النظام الصيني من الأقلية المسلمة في الصين (الأويغور) والتي تتعرض لجميع أشكال التنكيل بما فيها السجن الجماعي والتجارب الطبية لفرض العقم على أفرادها.

طالت الأفكار السلطوية الشمولية، مثل الشيوعية، العالم العربي أيضا، وخصوصا سوريا والعراق ومصر والجزائر.

ففي مصر أدى التطهير الثقافي الذي قاده جمال عبد الناصر ضد النخب المتأثرة بالفكر الغربي، أمثال طه حسين والليبرالي على وجه الخصوص، إلى حرمان، ليس مصر فحسب، بل العالم العربي والإسلامي من النتاج الفكري الحضاري الذي أنتجته  مصر  لأكثر من نصف قرن.

هنا أيضا، تم استبدال التعددية الحزبية والديمقراطية اليافعة في مصر بحزب واحد باسم “الوحدة” التي ما هي في الحقيقة سوى دكتاتورية خانقة لا يُسمع فيها إلا صوت الحزب الحاكم.

من المؤاخذات التي تسجل على منظومة حقوق الإنسان والحكم الديمقراطي من قبل كل دكتاتور سلطوي أنها ولدت في أوروبا، وكأن هنالك من  يستطيع اختيار والديه.

وبدل التركيز على حقيقة أن الإنسانية لم تعرف حتى الآن منظومة فكرية أكثر إنسانية، يركز أعداء هذه المنظومة على الأماكن التي لم يتم فيها تطبيق هذه المبادئ بشكل تام حتى في الغرب ذاته، وكأن هذا إثبات لعدم صلاحيتها.

لا تزال دون شك الدول الغربية ذات الماضي الاستعماري الموطن الذي يكاد يكون وحيدا في العالم من حيث العدد الكبير للنخب التي لا تزال تحارب بكل ما أوتيت من قوة، من أجل حقوق البشر حول العالم رغم المعارضة الشرسة من قبل نخب أخرى يحفّزها الربح المادي، ولو على حساب الآخرين.

لحسن الحظ، حتى الآن، لا تزال الدفة تميل ولو قليلا لصالح  النخب الإنسانية، مما يدفع بالآلاف للمغامرة بحياتهم من أجل الوصل لسواحل أوروبا.

لكن عند تركيز حديثنا عن النخب العربية ومسؤوليتها في التأسيس لقيم تحفظ كرامة الإنسان وتؤسس لتغيير سلمي وتدريجي نحو دول تحترم حقوق الإنسان وحق كل مواطن ومواطنة في الأمان والاستقرار والعدالة والتداول السلمي للسلطة، نجد الكثير منهم مستهينا، بل ومستهترا، بأهمية المسؤولية الملقاة على عاتق نخبنا في العالم العربي، ولعل أبرز مواطن ذلك مغازلتهم الأنظمة القمعية المحلية والدولية ودون أي خجل من النفاق الصارخ.

فترى بعض أفراد هذه النخبة يتبجح بتأمله فوز روسيا، البلد المعتدي على دولة ديمقراطية مجاورة يرفض مواطنوها أن يتم مسحهم عن الخريطة، بينما يندد نفس هؤلاء باحتلال إسرائيل لأراضٍ فلسطينية أو احتلال أميركا للعراق.

روسيا ذات التاريخ الطويل في القمع السياسي لمواطنيها ومواطني دول جيرانها أصبحت في نظرهم أقل شرا من الغرب الذي، لو سنحت لهم الفرصة، لهرعوا للحصول على فيزا لزيارته أو الإقامة فيه. يتمنونه ويهتفون له بالموت في الآن ذاته، وهو عين الانفصامية والسكيزوفيرينية.

يبدو واضحا أن الرسالة هي أن الاحتلال وتدمير الأرض والممتلكات وتشريد المدنيين والتنكيل بهم سيئ فقط إذا كان المعتدي طرفا لا نرضى عنه. أما إذا كان طرفا لا يهمنا، فليست هناك أي مشكلة مع هذه الممارسات الإجرامية بحق المدنيين.

فالمدنيون ذو قيمة فقط عندما يكونون من نفس ملتنا. ورغم استخدام  هذه النخب لتعابير حقوق الإنسان، فإن ما ينادون به ليست حقوق الإنسان، بل هي في الوقع القبلية البدائية الجهادية ذاتها، التي تبرر العنف ما دمنا نحن من نقوم به. إن استخدام مفاهيم حقوق الانسان بهذه الطريقة هو تدنيس لهذه الحقوق والمفاهيم.

للأسف تبدو أغلبية النخب في بلادنا مشغولة بالترويج لحقد أعمى لأميركا والغرب، مما يغذي فكرا متطرفا متمكّنا أصلا في المنطقة ويكاد لا يحتاج أي دعم إضافي لحصد الأرواح المحلية منها والدولية.

مشكلة التركيز على هذا الحقد أنه يعزز قدرة الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، وخصوصا الغنية منها، من التملص من مسؤوليتها الأخلاقية تجاه شعوبها. ولهذا، كان الأولى على أفراد هذه النخب أن تستغل موقعها المهم في التأثير للتأصيل لمنظومة حقوقية عالمية لكل فرد يقطن هذه الأرض معنا، سواء كان منا أو من غيرنا. حينها فقط تصبح هذه النخب إنسانية بكل ما تعنيه هذه  الكلمة.

الأَولى بنخبنا، بدل أن تضيع جهدها في الكراهية التي لم تعط ثمارا على مدى 100 عام، أن تبذل وسعها لتكوين مؤسسات قادرة على خلق مجتمعات وأفراد لديهم القدرة على المساهمة في بناء الأوطان وتحقيق عدالة اجتماعية حقيقية وتطهير بلادنا من العنف الجارف.

ورغم وجود استثناءات فكرية تُحمَد جهودها، إلا أنها استثناءات تثبت القاعدة. ذلك أن النخب العالمية التي تحارب لجعل حقوق الإنسان المحورَ الأساسي في جميع جوانب التشريع حول العالم، هي بحاجة ماسة لشركاء وحلفاء في عالمنا العربي. ونحن أيضا، مواطنو الدول العربية، بحاجة، في المقابل، لفكر قوي يؤسس بلا أي غموض لحقوق الإنسان العالمية.

إن خلق مجتمع يحترم حقوق الأفراد ويؤسس للعدالة الاجتماعية ليس بالأمر الهين، حتى في المجتمعات الغربية التي تسود فيها الحرية الفكرية والسياسية، كما أثبتت أحداث الاعتداء على الكونغرس الأميركي، والتي كادت  تطيح بأقدم ديموقراطية في العهد الحديث.

ولهذا، فبدل التحريض، نحن بحاجة لنخب تعمل ليل نهار لخلق فكر قادر على تمكين من لديهم المواهب لمعالجة ملفات الفساد المالي والإداري والديني المتفاقمة في جميع دول المنطقة بلا استثناء. حتى أن مشكلة التدخل الخارجي ذاتها سيكون حلها أسهل مع وجود فكر داخلي قادر على أن يساهم في التأثير على المناخ الثقافي العالمي.

لا قدرة لأي نخبة على تغيير التاريخ الاستعماري، سواء المتعلق بالغرب أو المتعلق بنا، ولذا ليس مقبولا أن ينظر بعض أفراد النخب العربية بفخر لتاريخنا الاستعماري، بل ويتحسرون على الأماكن التي انتهى فيها هذا الاستعمار، كما حدث في إسبانيا وأماكن أخرى في أوروبا، بينما ندندن ليل نهار بجرائم استعمارهم.

إن الفرق بيننا وبينهم في هذه النقطة، هو امتلاكهم حرية نقد تاريخهم، فالأكاديمية الغربية تكاد تكون مهمتها الوحيدة التشهير بالتاريخ الاستعماري لبلادها. والسبب في هذا التفاوت الظاهر يُعزى لعدم وجود زخم نقدي من النخب المعنية بالفكر الإنساني والحضاري.

في نفس الوقت، فإن الغرب الذي تحقد عليه كثير من هذه النخب لعدم نشره الديمقراطية في بلادنا، لا قدرة له أصلا على فرض ديمقراطية أو نشرها بدون رغبة داخلية حقيقية تثمّن مبادئ الديمقراطية التي لا تزال تكاد تكون مبادؤها غريبة تماما على مجتمعاتنا، فالكثير من نخبنا لا يزالون يتأرجحون بين لوم الغرب على عدم نشر الديمقراطية وذمه على عدم احترام ثقافتنا وخصوصيتنا.

لا شك أن نقد الغرب لا بد منه، بالأخص في ضل السياسات العالمية الجائرة، لكن التركيز حصريا على هذا النقد يتحول إلى مضيعة واستهتار بالمسؤولية التاريخية لهؤلاء.

إن تقصير النخب العربية في نشر فكر حقوقي تفضحه حقيقة أن الكثير من الدول العربية لم تعش حتى الآن إلا أياما معدودة من الديمقراطية، بل أن معظم الدول العربية لم تذق طعم هذه الحرية بعد.

إن أوطاننا بحاجة لنخب تتمتع بشجاعة ونزاهة فكرية كبيرة، لكي تغير عجلة التاريخ الضخمة والتي سارت باتجاه معين لآلاف السنوات، نحن بحاجة لنخب تترفع عن الشعبوية وتقود شعوبها فكريا نحو الإنسانية.

نحن نحتاج لنخب تترفع عن أعطاء الجماهير جرعات مخدرة مألوفة من كراهية الغرب لكي تحصل على رضا الشوارع ورضا الأنظمة الدكتاتورية، على الطريقة الترامبية (نسبة للرئيس، دونالد ترامب) الدعائية. فأين هي تلك النخب يا ترى؟

زر الذهاب إلى الأعلى