هكذا تغزو عصابات الكوكايين أوروبا وتملأ شوارعها قتلا وترهيبا

النشرة الدولية –

قال المركز الأوروبي لمراقبة المخدرات والإدمان في تقرير صادر عام 2021 إنّ حوالي 3.6 ملايين أوروبي تعاطوا مخدر الكوكايين مرة واحدة على الأقل خلال السنة، وهو مستوى “تاريخي” أعلى 4 مرات من المسجل قبل 20 عاما.

وقد زاد العرض على الكوكايين بأوروبا مع تسارع نمو الطلب، حيث سجل حجم المحجوز منه في القارة رقما قياسيا عام 2021 مع ضبط 240 طنا وفق مكتب الشرطة الأوروبي “يوروبول”، مقابل 213 طنا عام 2020 و49 طنا قبلها بـ10 سنوات.

كما تم ضبط كميات كبيرة من المخدر الأبيض الفترة الأخيرة، بما في ذلك كمية ضخمة بلغت 30 طنا في تشرين الثاني الماضي، خلال عملية أمنية وجهت صفعة قوية لـ “عصابة كبيرة” لم يتمكن مسؤولو إنفاذ القانون من كبح جماحها حتى الآن.

وعام 2020، ضُبطت أكبر كمية من الكوكايين على الإطلاق (214.6 طنا) في الاتحاد الأوروبي والنرويج وتركيا للعام الرابع على التوالي، بحسب ما كشف التقرير الذي أصدرته وكالة الشرطة الأوروبية (Europol) بالتعاون مع المركز الأوروبي لرصد المخدّرات وإدمانها.

تهديد متزايد

ويرى مدير الشرطة القضائية الفدرالية البلجيكية إريك سنوك تعليقا على هذه الأرقام أن ما يحدث شبيه بـ “تسونامي أبيض” يجتاح القارة العجوز.

وتبلغ قيمة سوق الكوكايين، ثاني أكثر المخدرات استهلاكا بالاتحاد الأوروبي بعد الحشيش، أكثر من 24 مليار دولار.

وخلص تقرير آخر صادر عن الاتحاد الأوروبي في أيار الماضي، إلى أن دول الاتحاد تواجه “تهديدا متزايدا” من سوق مخدرات أكثر تنوعا وديناميكية تقوم على تعاون وثيق بين المنظمات الإجرامية الأوروبية والدولية.

وذكر مدير المركز الأوروبي لمراقبة المخدرات والإدمان ألكسيس غوسديل أن الطبيعة الجديدة لهذه السوق أدت إلى “مستويات قياسية لتوافر المخدرات، وزيادة العنف والفساد، وتفاقم المشاكل الصحية”.

وأشار إلى أن هذه السوق آخذة في التوسع، مدفوعةً بمستويات قياسية من التهريب وتنامي مشكلات العنف، وأنها لم تتأثر سلبا بالاضطرابات الناجمة عن جائحة كورونا، كما يؤكد استمرار الاتجار بالكوكايين عن طريق البحر بمستويات شبيهة بما كانت عليه قبل عام 2019.

بؤر توزيع

تشير بيانات أمنية رسمية إلى أن نقاط الدخول الرئيسية ومراكز توزيع الكوكايين الأبرز بأوروبا هي كل من هولندا وبلجيكا وإسبانيا، وهي الدول التي يتم فيها غالبا تحويل المخدر بعد إنتاجه بدول أميركا اللاتينية مثل كولومبيا وبوليفيا وبيرو.

وبات ميناء روتردام، الأكبر في أوروبا، يستقبل السنوات الأخيرة كميات متزايدة من المسحوق الأبيض. وقد حذر رئيس بلدية المدينة أحمد أبو طالب، صيف العام الماضي، من أن مدينته باتت فعليا “تغرق في الكوكايين” مستنكرا العنف المرتبط بتهريب هذه المادة، ومقترحا إخضاع كل الحاويات الآتية من أميركا اللاتينية لفحص بالمسح الضوئي.

والمشكلة “كبُرت خلال السنوات الأخيرة” كما يوضح خير شيرينجا المسؤول بالسلطات الجمركية للميناء الهولندي الذي يُعتبر -فضلا عن ميناء أنتويرب البلجيكي- أبرز مداخل الكوكايين إلى القارة.

تكنولوجيات رقمية

يفسر مراقبون ارتفاع مستوى الاستهلاك لمخدر الكوكايين لدى الأوروبيين السنوات الأخيرة بأسباب عدة، لكن تقارير أوروبية أظهرت أن الاستخدام المتزايد للتكنولوجيات الرقمية بالتسويق يعد أحد أبرز هذه الأسباب، بما في ذلك شبكة الإنترنت المظلمة والمرئية ووسائل التواصل وتطبيقات الهاتف المحمول.

ويتدفق مخدر الكوكايين مثلا على العاصمة الفرنسية، كما هو حال معظم المدن الأوروبية الكبرى، ولا يتطلب تقديم طلبية أكثر من 10 دقائق عبر تطبيقات المراسلة المشفرة مثل واتساب وسيغنل، ويتسلم الزبون الطلبية في منزله، تماما كما يستلم بيتزا أو وجبة سريعة.

وتشرح فيرجيني لاهاي التي تقود فرقة مكافحة المخدرات في باريس برتبة ضابط “المستهلكون يفضلون استعمال منصة مراسلة وتسلم الطلبية عند عتبة منازلهم” فذلك “أسهل بكثير من التوجه إلى حي فقير وغير آمن بالضواحي”.

منشأ الكوكا

تبدأ رحلة المسحوق الأبيض على بعد آلاف الكيلومترات من القارة العجوز، حيث تنمو في منحدرات الهضاب المرتفعة لكولومبيا وبيرو وبوليفيا الأوراق التي يُستخرج منها المخدر الذي أشاع استعماله بالقرن الـ 19 لخصائصه العلاجية، كما يوضح المحلل النفسي سيغموند فرويد وعدد من الكيميائيين الأوروبيين.

ويعمل مئات الآلاف من المزارعين الكولومبيين في مجال زراعة الكوكا، وهو واقع لم تغيره مليارات الدولارات التي أنفقتها بوغوتا وواشنطن على مدى عقود في “الحرب على المخدرات” حيث لا ينفك إنتاج هذا المخدر عن النمو.

وقد بلغ بالفعل مستوى قياسيا “تاريخيا” عام 2021 حيث تم حصاد 1400 طن، مقابل 1010 أطنان عام 2020، أي بارتفاع قدره 43%، وفق مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة.

كما يقدر الخبراء الحجم الإجمالي للكوكايين الذي عرض بالسوق العالمية -خلال نفس السنة- بأكثر من ألفَي طن.

وتعد كولومبيا وحدها المزود بثلثي الكوكايين المستهلك بالعالم، لكن سقوط كارتلَي ميديلين (Medellin) وكالي (Cali) وهما أكبر عصابات المخدرات في هذا البلد والعالم، منتصف تسعينيات القرن الماضي. وقد غير شيئا ما طبيعة السوق الكولومبية اتفاقُ السلام المبرم بين الحكومة ومتمردي “القوات المسلحة الثورية (فارك) الماركسيين عام 2016.

وقد صب هذا التغيير في مصلحة عصابات المخدرات في بلد آخر هو المكسيك، فبعد أن كانوا مجرد وسطاء نهاية القرن الماضي، استفاد المكسيكيون من انهيار منافسيهم الكولومبيين لبسط سيطرتهم على القطاع بشكل شبه كامل، من تمويل الإنتاج إلى الإشراف على الصادرات.

وبعد أن أعطت العصابات المكسيكية، أمثال كارتيلَي سينالوا (Sinaloa) وخاليسكو (Jalisco) لفترة طويلة الأولوية لسوقهما “الطبيعية” أي الولايات المتحدة، باتت الآن تستهدف القارة الأوروبية التي تشهد ارتفاعا متزايدا بالاستهلاك.

ويوضح مدير الاستخبارات الجمركية الفرنسية فلوريان كولا أن “سوق الولايات المتحدة أصبحت مشبعة، في وقت تباع الكوكا في أوروبا بسعر أعلى بنسبة 50 إلى 100%”.

ويضيف “من الأمور الأخرى التي يستفيد منها التجار أن الأخطار الجنائية قد تكون أقل وطأة في أوروبا من الولايات المتحدة”.

شحنات موز

مثل 90% من التجارة العالمية، تعبر معظم كمية الكوكايين المحيط الأطلسي في حاويات، ويكون المخدر مخبأ في شحنات من الموز أو مسحوق السكر أو السلع المعلبة.

ويهرب جزء آخر جوا في حقائب أو أمعاء المهربين الذين ينطلقون مثلا من كايين في غويانا الفرنسية متجهين إلى باريس. كما يُهرب أحيانا في قاع البحر بغواصات يتم التحكم بها عن بعد، مثل التي صادرتها الشرطة الإسبانية في يوليو/تموز 2022.

ومطلع العقد الأول من القرن الـ 21، أنشأ المكسيكيون جسرهم للتهريب إلى أوروبا عبر منطقة كوستا ديل سول (Costa del Sol) جنوبي إسبانيا. وبعدها بسنوات، ومع القبض على العديد من أباطرة التهريب والنمو الهائل للنقل البحري، وجهوا اهتمامهم نحو موانئ الشحن الرئيسية شمال القارة العجوز.

ويُشحن الكوكايين بميناء سانتوس البرازيلي الذي تسيطر عليه مافيا ساو باولو، وميناء غواياكيل في الإكوادور، وكولومبيا وبنما وبيرو، قبل أن يصل إلى موانئ أنتويرب وروتردام وهامبورغ ولوهافر.

وتقول كورين كليوسترات نائبة مدير الجمارك الفرنسية “بعض الشحنات تتوقف في جزر الأنتيل قرب خليج المكسيك، والبعض الآخر يتجه إلى البلقان أو يمر عبر غرب أفريقيا قبل أن ينتهي به المطاف في أوروبا”.

تهديد أمني

ذكر المرصد الأوروبي للمخدرات والإدمان عام 2016 أن أسواق المخدرات -التي ينفق فيها مواطنو الاتحاد الأوروبي أكثر من 24 مليار دولار سنويا تشكل “واحدا من أبرز التهديدات لأمن القارة”.

وتسيطر المجموعات الإجرامية المكسيكية والكولومبية والإيطالية على استيراد الكوكايين في القارة العجوز، مع تطور ملحوظ لدور عصابات أخرى فرعية مثل النيجيرية والبلقانية على سبيل الذكر.

وقد أثيرت أيضا مخاوف -في تقرير مشترك صدر العام الماضي عن يوروبول وإدارة مكافحة المخدرات الأميركية من أن التعاون بين الجهات الإجرامية المكسيكية والأوروبية “قد يستمر في التطور” حيث برزت مضبوطات الكوكايين القادمة من المكسيك خلال السنوات الأخيرة كـ “سمة بارزة” في مشهد المخدرات الأوروبي.

غرف تعذيب

ولأجل تسويق منتجها، تعتمد عصابات المخدرات العابرة للحدود أساليب شتى مثل اللجوء إلى “إفساد” مسؤولي القطاعين العام والخاص عبر الرشاوى وشراء الذمم، كما تؤكد بوليتيكو (Politico) الأميركية.

وحذرت هذه المجلة -في تقرير لها- من أن “زيادة وجود الكارتلات المكسيكية بالاتحاد الأوروبي قد تؤدي إلى زيادة منسوب العنف” حيث ينخر الموانئ الرئيسية شمال أوروبا عنف المافيات المحلية التي تزعزع استقرار ديمقراطيات متجذرة مثل بلجيكا وهولندا.

ومن إلقاء قنابل اليدوية وعمليات إطلاق نار في شوارع أنتويرب إلى الاغتيالات بأمستردام، مرورا بمخططات خطف شخصيات سياسية بالبلدين، تهدد أساليب المهربين النظام العام وتهز استقرار المجتمع بأسره، وفق بوليتيكو.

كما رصدت مؤسسات أمنية أوروبية استعدادا كاملا من قبل شبكات التهريب لفعل أي شيء للدفاع عن مصالحها. ويقول الشرطي البلجيكي إريك سنويك، واصفا أساليب هذه العصابات “اكتشفنا عنفا غير مسبوق.. ما من رادع لتعذيب شخص لديه معلومات جيدة أو إعدام شخص لم يحترم اتفاقا. إنها أمور يقشعر لها البدن”.

وبالفعل فقد اكتشفت الشرطة الهولندية عام 2020 بأحد موانئ البلاد حاويات تم تحويلها إلى غرف احتجاز وتعذيب.

كما أحبطت السلطات البلجيكية خطة لخطف وزير العدل فانسان فان كوكينبورن في أيلول 2022. وأوردت وسائل إعلام هولندية أنباء عن محاولات، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لاستهداف كل من الأميرة أماليا (18 عاما) التي تتقلد ولاية العهد، ورئيس الوزراء مارك روته.

وجرى اغتيال محام وصحفي شهير كانا مضطلعين بمحاكمة قائد شبكة لتهريب المخدرات بهولندا عامي 2019 و2021، مما أحدث صدمة في البلاد ودفع السلطات إلى اعتماد مزيد من التدابير لاحتواء النفوذ المتزايد لشبكات التهريب.

قتل وخطف

من جانب آخر، أدى اشتداد المنافسة خاصة في بلجيكا وفرنسا وإسبانيا بين موردي المخدرات إلى زيادة المواجهات العنيفة وعمليات القتل والخطف.

وتقول ستيفاني شيربونييه رئيسة المكتب الفرنسي لمكافحة المخدرات “أوفاست” (OFAST) “المصالح المالية المتضاربة جعلت المنظمات الإجرامية تستورد أساليب الكارتل إلى أراضينا: تصفية الحسابات والخطف والتعذيب”.

وقد حذر المدعي العام في بروكسل جوهان ديلمول، في سبتمبر/أيلول الماضي، من مغبة تحول بلاده إلى “دولة مخدرات” في مستقبل قريب.

وفي فرنسا، أشارت لوفيغارو في تقرير نشر في أيلول 2022- إلى أنه كلما زادت قوة المنظمات الإجرامية وعصابات المخدرات بالبلاد تغلغلت في المجتمع من خلال الفساد.

وأوضحت الصحيفة أن المماطلة وغض الطرف عن محاربة هذه العصابات يجعلها تنفذ إلى أجهزة الشرطة والجيش وصولا للمناصب السياسية العليا، وبالتالي تصير تكلفة تفكيكها في وقت لاحق أعلى بكثير.

وقد نقلت على لسان ميشيل أوبوان المحافظ السابق المتخصص في قضايا الهجرة- تحذيرا للدولة الفرنسية من أن الحكومة إن هي قررت يوما ما مكافحة تهريب المخدرات، فقد تدخل المدن في حالة شبيهة بالتمرد.

وأضافت “حينئذٍ ستهتز فرنسا، لأنه لن يكون الأمر حينها مسألة عمليات تقليدية للحفاظ على النظام، بل عمليات حربية تتطلب وسائل لسنا متأكدين من أننا نمتلكها.. فرنسا لم تتحول بعد إلى مكسيك، لكن إن لم نتحل باليقظة الكافية فيمكننا أن نسلك طريقها”.

تعاون استخباراتي

أمام معضلة الكوكايين المتفاقمة أوروبيا سنة تلو أخرى، تنسق السلطات الجمركية في بلدان الاتحاد مع الدول التي تخرج منها المخدرات، وتقوم بتوعية الموظفين ضد شبهات الفساد وتفرض على المتورطين منهم بعمليات التهريب عقوبات صارمة.

وتُتخذ هذه الإجراءات الرقابية وغيرها في الغالب بناء على تقييم للمخاطر المحتملة، حيث تصنف مثلا بعض الحاويات بأنها “مشبوهة” استنادا إلى معلومات ترد من الخارج، ويجري فحصها بالمسح الضوئي ثم تُفرغ وتفتش بمساعدة كلاب متخصصة، كما تتولى مجموعات من الغواصين فحص السفن التي تحوم حولها شكوك.

كما أطلقت الشرطة الأوروبية وأجهزة القضاء “حربا شاملة” من خلال تطوير العمل الاستخباراتي والاستهداف وتعزيز التعاون الدولي وأمن الموانئ.

وتقف عناصر جمارك فرنسيون -على سيبل المثال- في جزيرة مارتينيك على خط المواجهة الأول مع المهربين في بحر الكاريبي، حيث يراقبون ويفحصون زوارق الصيد والمراكب الشراعية وسفن الشحن التي تبحر قبالة ساحل أميركا اللاتينية.

لكن نجاعة إجراءات كهذه في كبح قنوات التهريب السرية موضع شك، خاصة في ظل تزايد الطلب على الكوكايين بأوروبا، وهو ما يؤكده جان شارل مدير ضباط الجمارك بجزيرة مارتينيك شرق البحر الكاريبي إلى الشمال من ترينيداد وتوباغو، بقوله “المهربون باتوا يعرفون أساليبنا.. نحن نبذل قصارى جهدنا لكن يجب أن نعرف أننا لن نكون قادرين على الإمساك بكل شيء. في كثير من الأحيان نكون متخلفين بخطوة”.

زر الذهاب إلى الأعلى