من إسبرطة وأثينا إلى موسكو وبروكسل “رماحٌ لا تنكسر”
بقلم: اكرم كمال سريوي

النشرة الدولية –

الثائر –

كانت أثينا مدينة ساحلية، ازدهرت تجارتها عبر البحار، ووضع فلاسفتها سقراط وأفلاطون وأرسطو وتلامذتهم، أسس الحضارة والديمقراطية في الحكم، واشتهر مواطنوها بالثراء، وامتلكت أضخم أسطول بحري، في العالم القديم، وكانت عاصمة الحلف “الديلي”.

أمّا جارتها ومنافستها إسبرطة، فاشتهرت بمحاربيها، ورجالها الأشداء، واعتمادها نظاماً عسكرياً شبه شيوعي، بحيث كان يُسلّم الأهل أبناءهم الذكور إلى الدولة، في عمر السبع سنوات، ثم يتم إخضاعهم لتدريبات قاسية جداً، وبلا هوادة، تجعل منهم جنوداً مخلصين، لا يأبهون بالألم، ولا يعرفون الخوف، متمرسين في ضروب الطعان، وفنون القتال.

كانت معركة “ترموبيل” التي ذكرها المؤرّخ الشهير هيرودوت، (وربما شاهدتم فيلم 300 الأمريكي عنها) تحكي أسطورة بطولة ثلاثمئة مقاتل، قادهم ملك اسبارطة، معطياً مثالاً في تضحية القائد في سبيل شعبه ووطنه، وواجهوا جيشاً جراراً من الفرس، كان يفوق ربع مليون مقاتل، وعندما طلب منهم الفرس إلقاء رماحهم، أجاب الإسبرطيون بصوت واحد: “تعالوا وخذوها إن استطعتم”. فدارت معركة، سطّر فيها أولئك المحاربون الإسبرطيون الشجعان، ملحمة تاريخية، قُتل فيها ملكهم وكل جنوده، لكنهم أعاقوا تقدّم الجيش الفارسي، مما سمح للجيوش اليونانية بالإنسحاب، والاستعداد لمعركة “سلامينا”، التي عادوا وانتصروا فيها على الفرس.

أمّا انتقام إسبرطة من طروادة، فكان قاسياً وعنيفاً ومدمراً. فبعد أن خطف باريس أبن ملك طروادة، هيلين الجميلة، زوجة شقيق ملك اسبرطة، زحف جيش اسبرطة وحاصر طروادة، التي تحصن جيشها بداخلها، ورفض الخروج لمنازلة الإسبرطيين القساة، الذين عمدوا إلى خديعة “حصان طروادة” الشهيرة، وتمكّنوا من فتح أبواب أسوار المدينة ليلاً، فدخلوها وأحرقوها عن بكرة ابيها، وحوّلوها إلى حطام ورماد.

كانت إسبرطة مدينة داخلية، بحثت دائماً عن منافذ بحرية، لتعزيز تجارتها، فسبب لها ذلك حروباً طويلة مع أثينا الساحلية. وكون ولاء المواطنين، ينقسم بشكل عام إلى نوعين، فلقد كان ولاء الأثينيين، من نوع الولاءً للازدهار والثروة، فيقوى بقوتها، ويخفُّ عندما تضعف، وربما يصح في هذا الولاء، أن نستعير من ابو الطيب المتنبي قوله، بعد استبدال كلمة “الرأي” لنقول :

المالُ قبلَ شجاعةِ الشجعانِ

هو أوّلٌ وهي المحلُّ الثاني

أمّا ولاء الإسبرطيين، فكان من نوع الولاء لقوة الدولة ومجدها، فنمت لديهم روح التضحية والوفاء، والإخلاص لإسبرطة الدولة العظيمة.

ما أشبه اليوم بالأمس!!!

فلقد توسّعت دوقية موسكو وأصبحت روسيا إمبراطورية عظيمة مترامية الأطراف، لكنّها بقيت شبه مغلقة مثل اسبرطة، وعبر قرون من الزمن كانت تبحث عن منافذ بحرية لتجارتها، فحدودها الشمالية تتجمد معظم أيام السنة، وموانئ الشرق الأقصى بعيدة جداً عن مناطق السكن والإنتاج، التي تتركّز في قسمها الأوروبيي والجنوبي الغربي، أمّا منفذ بحر البلطيق، فهو بعيد وتتحكم به دول الناتو الأوروبية، وليس لدى روسيا سوى منفذ البحر الأسود.

كان طلب أوكرانيا عام ٢٠١٤ بفك المعاهدة مع روسيا، ومطالبتها باخلاء قاعدة سفاستوبول، بمثابة قرار بخنق الأسطول الروسي في البحر الأسود، لذا جاء الرد الروسي حازماً وسريعاً، بإعلان ضم شبه جزيرة القرم، التي خاضت لإجلها روسيا معارك عنيفة وطويلة، عبر قرون من الزمن، ضد؛ السلطنة العثمانية، وبريطانيا، وفرنسا، والمانيا، وعمدت اليوم إلى وصلها براً بالأراضي الروسية، والسيطرة على كامل منطقة بحر أزوف.

تشبه أوروبا، وعاصمتها بروكسل، (مركز حلف “الناتو”)، مدينة أثينا إلى حد كبير، فهي تسيطر على قرابة نصف التجارة البحرية العالمية، وتنعم دولها بالازدهار والثراء، وكانت تملك عدداً كبيراً من المستعمرات حول العالم، وما زالت تحتفظ بقسم كبير منها.

فبريطانيا تسيطر على ١٤ إقليماً خلف البحار، بمساحة تفوق مساحة بريطانيا بثمان مرات، وخاضت حرباً عام ٢٠١١ لمنع عودة جُزُر فوكلاند الأرجنتينية، إلى البلد الأم، وهجّرت شعب جزر شاغوس الهندية، لتتمكن الولايات المتحدة من بناء قاعدة دييغو غارسيا العسكرية.

وفرنسا تملك مئة إقليم خلف البحار، وضمت أرضاً عربية تبعد عنها آلاف الكيلومترات، واستخدمت حق النقض الفيتو في مجلس الأمن، لمنع عودة جزيرة “مايوت” إلى دولة جزر القمر العربية.

والدنمارك تسيطر على غرينلاند، التي تفوق مساحتها خمسين مرة مساحة الدنمارك، وإسبانيا تقتطع جزءاً من أراضي المغرب.

ما ينطبق على أوروبا ينطبق على شريكتها، الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً، فشعبها بغالبيته تشكّل من التجار المهاجرين، وما اصطحبوه معهم من عبيد، وتملك الدولة اليوم أكثر من 4000 جزيرة ومستعمرة حول العالم، وتتركّز في أمريكا، جماعة كبار أصحاب رأس المال، وهم يسيطرون على غالبية المؤسسات الدولية، والشركات العابرة للقارات، ويُمسكون بمفاصل الحكم، ليس في أمريكا وحدها، بل في عدد كبير من دول أوروبا والعالم، ويُقيمون “دكتاتورية البرجوازية” تحت شعار الديمقراطية، التي بقيت منقوصة، ولا وجود حقيقي تام لها في أي دولة، سوى في أوهام بعض المنظّرين لها، منذ زمن أرسطو وحتى اليوم.

وكما أثينا، فإن الولاء في أمريكا هو للثروة والازدهار، ولو استثنينا ألمانيا، فهو كذلك أيضاً في معظم دول أوروبا، خاصة لدى سكان المستعمرات.

الفرنسيون والبولنديون وغيرهم من شعوب أوروبا، لم يدافعوا كفايةً وكما يجب عن أوطانهم، إبان الحرب العالمية الثانية، واستسلموا لهتلر دون مقاومة تُذكر، ولولا تضحيات وصمود الشعب السوفياتي، وانتصاره في الحرب على المانيا، وتحريره أوروبا والعالم من النازية، لربما كانت هذه الدول، ما زالت ترزح تحت الحكم الفاشي حتى يومنا هذا.

الشَبه كبير بين روسيا وإسبرطة، فالمجتمع متماسك جداً، والولاء الروسي، كما كان في اسبرطة، هو لقوة الدولة والوطن، والتنشئة العسكرية فيها، تجعل المحاربين أشداء، وروح التضحية والشجاعة، تملأ قلوبهم، وتراهم يتحدون أمام أي خطر أو تهديد لوطنهم، ويتناسون أي مشاكل أو خلافات داخلية.

لم يرمِ الإسبارطيون رماحهم، ولم تنكسر، واستبسلوا في في معركة “ترموبيل”، وكذلك “كينجال” الروسي، أثبت أنه عصيٌّ على الكسر، ولا يمكن ردّه، ويصيب هدفه بدقة عالية، وقوة قاتلة في القلب، وصاروخ “بوسايدون” إذا غضب، فلن يترك خلفه سوى الخراب والدمار الهائل.

عندما انتصرت اسبرطة على أثينا، طالب حلفاء الإسبرطيين، بتدمير أثينا وإحراقها واستعباد شعبها، فرفض الاسبارطيون أن يقوموا بذلك، إكراماً ل هيرا شقيقة الإله زيوس، واكتفوا بهدم أسوارها فقط، أما في حربهم ضد طروادة، فحوّلوا المدينة إلى رماد.

وحتى اليوم لا يمكن الجزم بحقيقة، ما إذا كانت هيلين انغرمت فعلاً بباريس، وذهبت معه بارادتها إلى طروادة؟؟؟، أم تمت التضحية بها، ودفعها لإغواء الأمير الطروادي، كي تُشكّل مبرراً لغزو المدينة ؟؟؟ هل كانت هيلين غانية وخانت زوجها فعلاً؟؟ أم أنها ظُلمت في التاريخ؟؟؟ لا يمكن معرفة الحقيقة، ولا الجزم بالأمر، فكل شيء دُفن تحت أنقاض طروادة.

هل ستلعب أوكرانيا دور هيلين الجميلة، التي تسببت بإحراق طروادة؟؟؟ أم دور هيرا، شقيقة زيوس إله إسبرطة، التي أنقذت أثينا من الدمار الشامل؟؟؟

الحرب ما تزال في بدايتها، والمفاجآت القادمة قد تكون صادمة للجميع.

زر الذهاب إلى الأعلى