صالة أجيال تقدم عوالم أخرى للفنانة اللبنانية فانيسا جميّل
ألوان صاخبة تبوح بآمال اللبنانيين وأحلامهم
النشرة الدولية –
العرب – ميموزا العراوي –
لبنان بلد الأضداد، بلد العوالم المتداخلة التي تلقي بالفنانين في أتون الخيال، فتدفعهم إلى البحث عن عوالمهم الخاصة التي يحلمون فيها بواقع جميل يشبه جمال بيروت وصخبها، ومن هؤلاء الفنانة فانيسا جميّل التي اختارت في معرضها الأخير أن تصور “عوالم أخرى” تختصر عاطفتها تجاه لبنان وبيروت والحياة التي لا تهزم في هذا البلد.
افتتحت صالة “أجيال” في الثامن من يونيو الجاري معرضا للفنانة التشكيلية اللبنانية فانيسا جميّل تحت عنوان “عوالم أخرى”. يستمر المعرض لمدة شهر كامل ويضم مجموعة لوحات معظمها بالحجم المتوسط ومشغولة بمادة الأكريليك على قماش.
تكرس الفنانة التشكيلية اللبنانية فانيسا جميّل في صالة أجيال خطّها الفني عبر “عوالم أخرى” موازية للمشهد اللبناني. وكأن الفنانة في هذه اللوحات تشيد مشاهد مختلفة عن الواقع كتعويض عما غاب عن بيروت من انسجام كلي ما بين الطبيعة والمنازل والشوارع. شوارع متعرجة وأخرى تنساب بسلاسة لتضيق وتتّسع فتحضر حضورا شبه دائم في كل لوحاتها.
الطرقات عنصر بصري مهم في لوحاتها وترسمها فانيسا الجميّل تتسلق صعودا نحو أقصى اللوحات أو تنحدر وتتمدد في أرجائها كشرايين تعقد الصلة بين الإنسان والطبيعة، لاسيما في ظل الغياب المباشر للإنسان والذي اقتصرت الإشارة إليه وإلى حضوره على الأمكنة التي من المُفترض أنه يمرّ بها أو يعيش في البيوت المشرفة عليها.
ويمنح الأسلوب الفطري الذي تبنته الفنانة شيئا من السحر للوحاتها لأن الطرقات تبدو في معظم اللوحات وكأنها لا تختفي في الأفق بقدر ما تصعد إلى السماء الملونة كسلالم متينة. وهناك أمر آخر تتميز به لوحات الفنانة الحاضرة ومعظم ما سبق ولا يمكن تفسيره بشكل منطقي تماما وهو أن المشاهد التي ترسمها تبدو وكأنها دوما مشاهد ليلية بغض النظر عما إذا كانت عابقة بشتى الألوان.
لو تأملنا في ذلك قليلا لوجدنا أنه ليس في ذلك أية غرابة، بل هو منسجم مع كون العوالم الأخرى المُتخيّلة التي هي وليدة ليل قاتم تصالح معه الفنان فأفرج له أمامه عن ألوانه ووميضه المخفي والذي غالبا ما ننسبه إلى نهار مشمس.
ربما تكون لوحات الفنانة فانيسا جميل منبثقة عن عاطفتها تجاه لبنان بشكل عام وبيروت بشكل خاص حيث يعتمل احتفال لا يتوقف بالحياة الملونة وبأجوائها المتناقضة التي هي جزء أساسي من جاذبية لبنان بشكل عام وبيروت بشكل خاص.
البيان الصحفي المرافق للمعرض يضمّ نصا لأمي تودمان يذكر أن عالم الفنانة هو عبارة عن صدى أو ترجمة بصرية لتجارب الفنانة السمعية بالموسيقى الإلكترونية التي تعشقها. وأن الصخب اللوني وضربات الريشة متأتيان من عالم هذه الموسيقى التي تمنحها حرية في التعبير. لعل أكثر ما يساعد الفنانة في إنجاز أعمالها لاسيما الجديدة منها هو تفرغها في مرسمها الذي أسسته حديثا في بلدة بكفيا الواقعة في قضاء المتن حيث الطبيعة والهدوء والقدرة على التفرغ للإبداع أمر مُتاح جدا.
ومن سبق أن تعرف ولو بشكل سطحي على فانيسا جميّل سيعثر على خاصية الهدوء المُلتبس (مُلتبس، كما هو دوما حين يتصف به أي فنان من الفنانين التشكيليين). وقد تمكنت الفنانة من ترجمة هذا الهدوء المُلتبس المُظهّر بالنوافذ والأبواب الموصدة في لوحاتها والتي هي في آن واحد غير سجينة ألوانها، بل منفتحة على المهرجان الليلي الملون الدائر في فضاء لوحاتها. فضاء، ولا نقول أفق، حتى وإن كان الأفق حاضرا تشكيليا في بعض لوحاتها لأن الفنانة على الأرجح غير معنية به كما هي معنية بالانفتاح على خوارق عالم آخر لا يشبه هذا الذي نعيشه إلا من حيث المبدأ.
تقدم الفنانة أعمالها بهذه الكلمات الشعرية “المباني التي أرسمها هي انعكاس للمجتمع وللزمن الذي يمرّ ولمستقبل قيد النشوء. هذه المباني هي أبطال لوحاتي. هي الهشاشة في طبيعة ملؤها السكينة غير أنها بدأت تتبنى بدورها هذه الهشاشة لتجعلها أهم ما يعرّف بها. هكذا يبدأ مشواري مع تخيّل عوالم مختلفة، هي عوالم مستقبلية ربما، أو هي عوالم واقعية وآنية في طور التبدّل أو ربما عوالم تخصّ كواكب أخرى. غير أنها في كل حالاتها تحمل بصمات مشرقية جلية النبرات”.
ليس معرضها الحالي انقطاعا عن الذي سبقه، بل على العكس؛ فمعرضها الذي نُظم أيضا في صالة صالح بركات والذي حمل عنوان “مدينة حمراء وليال من الدانتيل” يكاد يكون المنبع الرئيسي الذي تدفقت منه لوحاتها الحالية. ففيه تنطلق العين من لوحة إلى لوحة في محطات من سياق زمني واحد يمتدّ بليله ونهاره ومكانه الذي يتّسع أفقيا، هو مدينة واحدة وهي بعدة شوارع ومضائق وتلال وشموس وأقمار وأشجار ومبان غير عالية، لا تعرف شيئا عن الأبراج الهمجيّة التي تكتسح المدينة المنمنمة، بيروت، تحت شعار الحداثة وركاكة التنظيم المدني.
تلك المدينة التي تُريد بها الفنانة على الأرجح أن تكون بيروت، هي مدينة لا تشبه إلاّ ما حاكته هي (أي الفنانة) في مخيلتها. مخيلة استندت من دون شك إلى وقائع، لتبتعد عنها كثيرا. ولم لا؟ فبيروت، لا بل لبنان بكليته ما عاد يشبه ذاته، ولم نعد نعثر عليه إلاّ في أغاني فيروز، ربما.
لا تخرج الفنانة فانيسا جميّل اليوم في معرضها “عوالم أخرى” من أجواء لوحاتها السابقة، بل توغل فيها عموديا أكثر مما هو أفقيا ويبدأ العمق الذي “يكرهه”، إذا صح ّ التعبير، أو لا يعترف به الفن الفطري يتسلل إلى لوحاتها. يبقى أن ننتظر ما ستقدمه الفنانة لاحقا لنتعرف على المُنتصر: هل هو التسطيح أم التعميق أكثر فأكثر؟
يُشار إلى أن فانيسا جميّل من مواليد عام 1985 في باريس، أقامت في باريس والولايات المتحدة عدّة سنوات قبل أن تعود لتستقر في لبنان. بعد دروس في العلوم السياسية وجدت ضالتها في الرسم فتعلّمته واحترفته، لتعرض إثر ذلك في باريس ولندن وخاصة بيروت ضمن صالون الخريف في متحف سرسق سنة 2009، وفي السيتي سنتر ضمن معرض الفن الدولي – جناح الاغتراب اللبناني عام 2010، وغيرها من المشاركات المحلية والعالمية. قدمت معرضها الفردي الأول في بيروت سنة 2013.