مخابرات بريطانيا حذرت من عواقب تمكين الجيش المصري الجماعة من الحكم بعد ثورة 23 يوليو – وثائق بريطانية
قبل سبعين عاما بالضبط، انتهى أهم جهاز استخباراتي بريطاني في الشرق الأوسط إلى التقييم التالي بشأن الإخوان المسلمين: التنظيم يتمتع بشعبية جارفة خاصة في الجيش، وهو الأقدر على الفوز بأي انتخابات.
رغم ذلك، حذرت الاستخبارات من عاقبة أن يمكِّن الجيش التنظيم من الوصول إلى حكم مصر، وفقا لوثائق بريطانية، حصُلتُ عليها.
بعد حركة الضباط الأحرار، التي تشير الوثائق إلى أن بريطانيا فوجئت بها، في 23 يوليو/تموز عام 1952، حذرت شخصيات من الحكومة الملكية المخلوعة من أن “الانقلاب بقيادة اللواء نجيب هو نتيجة حركة مستوحاة من الشيوعيين والإخوان المسلمين هدفها إنشاء نظام ثوري مناهض للرأسمالية”.
علم مجلس الوزراء البريطاني، برئاسة ونستون تشرشل، بالتحذير من وزير الخارجية خلال اجتماع عقُد في اليوم التالي لإعلان الحركة خلع نظام الملك فاروق، وفق محضر الاجتماع.
اعتبرت الاستخبارات الأمنية البريطانية في الشرق الأوسط “إس آي إم إي” الحركة انقلابا وتابعت الوضع المصري في ظله يوما بيوم.
وأثمرت المتابعة عن تقرير في أول أغسطس/آب عام 1952 بعنوان “الوضع الراهن في مصر بعد الانقلاب الأخير”، أعدته “فرقة تنسيق الشؤون المصرية” في مقر الاستخبارات في القاهرة.
وتعود أهمية التقرير إلى أنه صادر عن جهاز يضم ممثلين عن عدد من وكالات المخابرات البريطانية وجمع المعلومات المختلفة، التي كانت تدعم حكومة الحرب البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية. وكانت هي أيضا مصدر المعلومات الأساسي لصانعي السياسة البريطانية تجاه الشرق الأوسط.
ونبه ممثل البحرية البريطانية في مكتب إس آي إم إي، في تعليقه على التقرير، إلى أنه ليس هناك أساس لتحذير النظام السابق من الشيوعيين أو الإسلاميين باعتبارهم “بعبعا مفزعا” مزعوما.
وقال “يبدو أننا، أخيرا، هدّأنا شبح البعبع الشيوعي، والشعور الآن هو أن الأهم هو أنه لا يجب أن نسمح لبعبع الإخوان المسلمين بأن يكون له تأثير كبير في القضية الحالية”.
وأضاف “عضوية ستة من الأعضاء العشرة (في الضباط الأحرار الذين أعلن أنهم بدأوا حركة الضباط) في الإخوان المسلمين ليست دليلا على أن الإخوان كانوا وراء الأمر”.
وقال التقرير “يبدو أنهم (الإخوان) كانوا على علم مسبق بالانقلاب، غير أن ما يمكن رؤيته هو أنهم، كتنظيم، لم يكن لهم يد في التأسيس له والترويج له. ومعروف أن ستة من الضباط العشرة أعضاء في الإخوان المسلمين، وتأكد أيضا بشكل موثوق منه أن نجيب عضو”.
وخلص إلى أن معلومات الاستخبارات أكدت أنه “إذا قرر الإخوان المسلمون دخول المعترك السياسي، فإنهم سيكتسحون الجميع في الانتخابات القادمة، ولن يكون لحزب الوفد فرصة في المشهد”.
بعدما نجح الضباط في السيطرة على السلطة، اختاروا علي ماهر رئيسا للوزراء تحت قيادة اللواء نجيب، رئيس مجلس القيادة، الذي تغير اسمه إلى “مجلس قيادة الثورة” بعد التأييد الشعبي الكبير لانقلاب الضباط ، وقاده لاحقا جمال عبد الناصر بعد إطاحته بنجيب.
غير أن ماهر لم يكن الاختيار الأول، كما يكشف التقرير الاستخباراتي البريطاني.
فقال إن نجيب عرض رئاسة الحكومة على حسن الهضيبي، المرشد العام للإخوان المسلمين في ذلك الوقت.
في مذكراته “كنتُ رئيسا لمصر”، لم يشر اللواء نجيب، أول رئيس لمصر بعد انتقالها من الملكية إلى الجمهورية، إلى هذا العرض على الإطلاق رغم أنه تحدث بالتفصيل عن مداولات مطولة ومكثفة لاختيار رئيس للحكومة من غير العسكريين. وأكد أن الإخوان رفضوا عرضا بالمشاركة في حكومة جديدة، بعد استقالة ماهر، بثلاثة وزراء.
غير أن التقرير البريطاني يقول إن أحد مصادر الاستخبارات يؤكد “صدق” كلام حسن الهضيبي آنذاك، عن عرض نجيب عليه رئاسة أول حكومة بعد الثورة.
وقال إن “دقة وصدق ومكانة المصدر” تشير إلى أن “مرشد الإخوان عُرض عليه بالفعل هذا المنصب من جانب نجيب”.
كان هذا سبب قلق الاستخبارات مما قد يأتي. فحذرت من أن” قدرة الضباط العشرة الشبان على إتيان تصرفات متطرفة لتحقيق أهدافهم أمر ممكن بالتأكيد”.
وساق الأسباب التالية:
•ستة منهم أعضاء في الإخوان المسلمين. وأحد هؤلاء الستة، وهو محمد أنور السادات، له تاريخ طويل كإرهابي.
• العديد من الضباط الشبان كانوا شركاء لمصطفى كامل صدقي، وهو إرهابي معروف.
•لقد أثبتوا أنهم قادرون على التصرف القاسي بلا رحمة، مثل القبض على ضباط الشرطة، ومسؤولين مدنيين بعينهم وإصرارهم على تنازل الملك عن العرش.
إلى جانب الجيش وضباطه الثوريين، اعتبر البريطانيون الإخوان والوفد الضلعين الآخرين لثلاثي يسيطر على الساحة السياسية في مصر بعد 23 يوليو/تموز 1952.
وفي مواجهة تأثير الإخوان ونفوذهم، تمتع حزب الوفد بشعبية كبيرة بفضل سمعته في مقاومة الاحتلال البريطاني.
غير أن المقارنة، وفقا للتقرير الاستخباري، كانت في مصلحة الإخوان. وقال “مرة أخرى، يمكن الحكم بأن النفوذ الوفدي في الجيش ليس بقوة نفوذ الإخوان”.
وأحال معدو التقرير القيادة في لندن إلى تقييم سابق، أعده قسم التنسيق الخاص بالشأن المصري أيضا، وأكد أن ” 20 في المئة من الجيش أعضاء في الإخوان المسلمين مقارنة بـ 4 في المئة فقط أعضاء في حزب الوفد”.
كان السؤال الذي يشغل الجميع داخل مصر وخارجها يتعلق بقدرة نجيب على السيطرة على أي خلافات قد تنشب بين قادة الثورة العسكريين بشأن وجهة البلاد بعد خلع النظام الملكي.
ولُخص تقدير الاستخبارات في أنه إذا لم يستطع نجيب الاحتفاظ بالسيطرة على الضباط الشبان وضبطهم “فإن هناك خطرا جديا في أن فصيل الإخوان أو الوفد سوف يكون له اليد العليا”. ورجحت الاستخبارات أن تكون “يد الإخوان هي العليا”.
كانت الاستخبارات قد علمت أن تنظيم الإخوان قرر أن يتخلى عن دور المراقب ودخول الحياة السياسية. وأرسلت بهذا تقريرا إلى المقر في لندن.
تضمن هذا التقرير تنبيها إلى أنه “إذا لم ينجح على ماهر في تحقيق تماسك في الوضع السياسي خلال فترة معقولة، فإن الجيش سيدفع بالإخوان والهضيبي إلى السلطة”.
وعبرت الاستخبارات عن اعتقادها بأن هذا أمر” له أهمية كبيرة”.
وحذرت من عواقب تمكين الإخوان من الحكم خاصة بالنسبة للقوات البريطانية، ناصحا “بضرورة عدم إغفال هذا الأمر”.
وقال “لو وضع الجيش الإخوان في السلطة، فإنهم يملكون سلاحا نفيسا لا يقدر بثمن يتمثل في كتائبهم التي لم يتم، كما هو معروف، حلها أبدا، ولا تزال تملك كميات كبيرة من الأسلحة، لم تستخدم بشكل كامل في منطقة القناة”.
لم يتعلق التحذير بوضع قوات الاحتلال في مصر فقط، بل نبه إلى خطورة قوة الإخوان في أي صراع سياسي محتمل.
ووصف التقرير الكتائب المشار إليها بأنها “عنصر يمكنه بسهولة قلب الموازين في أي صراع على السلطة لمصلحة الإخوان المسلمين”.
كان هذا نذير خطر في رأي الاستخبارات البريطانية التي أكد تقريرها أن نجيب وماهر “على دراية به”.
ماذا عن حزب الوفد ذي التاريخ المشهود له في مقاومة الاحتلال؟.
قال التقرير إن “أنشطته (الحزب) الإرهابية أقل خطرا”. وفسر هذا بأن “وحدات التحرير التابعة للوفد قد حُلت بقدر كبير، وعلاوة على هذا، فإن تلك الوحدات لم تكن أبدا تملك مستوى التنظيم الذي لدى الإخوان المسلمين”.
وفضلا عن هذا، فإن التأثير الوفدي في الجيش” ليس بقوة التأثير الذي يتمتع به الإخوان المسلمون”.
أكثر ما شُغل به الحكام الجدد، وبريطانيا، في تلك الفترة الحرجة هو الاستقرار السياسي في مصر. وهذا ما دفع الاستخبارات البريطانية إلى عدم استبعاد أن يدفع الجيش بالإخوان إلى السلطة لتحقيق هذه الغاية.
وقالت، في تقريرها، إن إقدام الجيش على هذه الخطوة “سيكون أمرا له أهمية كبيرة”. وأضاف أنه لو قاد الهضيبي الجيش “ستكون هناك فرصة معقولة لأن يتصرفوا بكرامة وضبط نفس وسيطرة، ويحاولوا تحقيق أهدافهم على الأرض”.
أثار التقرير مسألة أهلية جماعة الإخوان، بعد نحو ربع قرن من تأسيسها، لحكم مصر، خاصة في مرحلة الانتقال الثوري من الملكية إلى الجمهورية.
في هذا الوقت، رصدت المخابرات البريطانية الإنجازات التي حققها الهضيبي ونجح بها في “تقوية التنظيم إلى درجة جعلته قادرا على أن يبزغ كقوة سياسية كبيرة فعلا”.
وأشار إلى أن من هذه الإنجازات:
• إحياء الجماعة وإعادة تنظيمها، لذا أصبحت قوة نابضة محترمة في البلاد
• أدى هذا إلى استعادة أصول وأموال الإخوان
• تحقيق هدف مقابلة الملك، وهو مالم يحدث مع حسن البنا، مؤسس الجماعة نفسه.
• تشاور رئيسي الوزراء، علي ماهر (أول رئيس وزراء بعد الثورة) وأحمد نجيب الهلالي (آخر رئيس وزراء قبلها) مع مرشد الإخوان في مناسبات عدة
• أشرك الإخوان في فترة التحرير دون أن يُشرك، رسميا، التنظيم، وبذلك أرضى العناصر المتهورة العنيفة (في الجماعة) بالسماح لبعضهم بالقتال في منطقة القناة.
ومع هذا ، رأى التقرير الاستخباري أنه إن مكًّن الجيش الإخوان من السلطة، فإنه “يجب الانتظار لنرى إن كان لديهم الرجال الذين يملكون القدرة، ولكن بدون خبرة سياسية سابقة، على إدارة جهاز الحكومة”.
وأثار معدو التقرير تساؤلا بشأن مفهوم الإخوان الإسلامي للدولة، الذي وصفه بأنه من قبيل اليوتوبيا غير القابلة للتطبيق في منتصف القرن العشرين.
وقال: “لا بد من الاعتراف، بالطبع، بأن نموذج الدولة المثالي الإخواني القائم على مبادىء القرآن هو أمر في غير أوانه الصحيح في المرحلة الحالية من تطور العالم”.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا التصور، الذي تحدث عنه التقرير، ظل، حتى أوائل القرن الحالي، مصاحبا للاستخبارات الخارجية البريطانية “إم آي 6” الذي عبر رئيس سابق له عن اعتقاده بأن الإسلام لا يواكب العصر.
بعد حوالى عامين وثلاثة أشهر من كتابة تقرير الاستخبارات البريطانية في الشرق الأوسط، تمكن عبد الناصر من التخلص من نجيب وأنصاره في الجيش لينفرد بالسلطة. وبعدها شن النظام أول أكبر حملة قمع استهدفت جماعة الإخوان المسلمين، التي عادت إلى الحياة السياسية مرة أخرى بعد تولي أنور السادات الرئاسة، في أكتوبر/تشرين الأول عام 1970، بعد وفاة ناصر.
مرت 41 عاما أخرى. وأجريت أول انتخابات رئاسية حرة ديمقراطية في تاريخ مصر، بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني عام 2011 التي أطاحت بنظام حسني مبارك وأبدى الجيش دعمه لها. وفاز بالرئاسة محمد مرسي، رئيس حزب الحرية والعدالة، الجناح السياسي للإخوان المسلمين.
وبعد سنة وثمانية أيام من رئاسته، تدخل الجيش للإطاحة به بعد احتجاجات شعبية على رئاسته.
ورغم اعتراض لندن المعلن على تدخل الجيش من حيث المبدأ، فإنها اعتبرت أن هذا التدخل كان استجابة لمطلب شعبي متنام بعد إخفاق حكم مرسي.
وبعد الإطاحة به، حوكم مرسي في أكثر من قضية وتوفي في محبسه في 17 يونيو/حزيران 2019. واعتقل عدد كبير من قيادات الجماعة وأعضائها، وفر كثيرون منهم إلى بريطانيا، مقر التنظيم الدولي للجماعة، التي صنفها نظام حكم الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي تنظيما إرهابيا. ولم تستجب بريطانيا لمطالبات مصر المتكررة بأن تقدم على خطوة مماثلة.
وفي التاسع والعشرين من يوليو/تموز الماضي، أعلن الإخوان المسلمون، فرع لندن بقيادة إبراهيم منير القائم بأعمال المرشد العام، التراجع عن خوض أي صراع على السلطة في مصر.
نقلا عن بي بي سي