كيف خدعنا المتطرفون* د. توفيق حميد

النشرة الدولية –

استطاع المتطرفون في الجماعات الإسلامية والسلفية وغيرها ممن يطلق عليهم جماعات الإسلام السياسي خداع ملايين من البشر عبر العقود الماضية بعرض مفاهيم دينية بطريقة معينة تضمن خلق واستمرار التطرف الديني في عقول الكثيرين.

 

ومن خبرة شخصية تجمعت عبر عشرات السنين ومن واقع تجربة عملية من خلال انضمامي للجماعات الإسلامية المتطرفة لمدة عامين (1979 ـ 1980) أثناء دراستي في كلية الطب جامعة القاهرة يمكن تحليل ما فعله هؤلاء لتشويه المفهوم الديني البسيط والجميل عند الناس وكان “الدين المعاملة” واستبداله بمفاهيم متطرفة وعنيفة للغاية.

 

وأحلل هنا بضعا من الأساليب التي استخدمها المتطرفون ولا يزالون يستخدمونها لتحقيق أهدافهم بالسيطرة على الشعوب بواسطة فكرهم الديني المنحرف.

أولا: إهمال أدوات التعريف في القرآن

 

من الصعب الذي يقارب المستحيل أن أنسى كيف كان يعمم المتطرفون كل آيات القتال ـ بالرغم من تخصيص القرآن لها ـ لدفع أتباعهم للعنف باسم الدين.

 

فهم (أي المتطرفون) وكتب تراثهم على سبيل المثال أغفلوا أدوات التعريف في القرآن مثل “ال” في بداية الكلمة و “هم” في آخرها فعمموا آيات القتال بدلا من تخصيصها فقط في مواجهة الذين بدأوا العدوان على المسلمين الأوائل.

 

والتخصيص في القتال تجلى على سبيل المثال في الآية التالية “فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ” (التوبة آية 5).

 

فشتان بين معنى كلمة “المشركين” وبين معنى “من أشرك” فالأولى تعمم المعنى والثانية تخصصه في الزمان والمكان لفئة بعينها تكلم عنها القرآن في قوله تعال “أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ” (سورة الحج 39 ـ 40).

 

وهناك فارق كبير بين معنى ” وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ” (الأنفال 39) والذي جاء في القرآن وبين معنى “قاتلوا غير المسلمين” فالأولى ـ وهي التي جاءت في القرآن ـ تتكلم عن مجموعة بعينها خصصتهم باستخدام أداة التخصيص “هم” والثانية ـ والتي ضربت بها المثل للتوضيح ـ تعمم المعنى على جميع غير المسلمين.

ثانيا: استقطاع جزء من الآيات لإظهار مفهوم بعينه

 

الأمر الآخر هنا كان إظهار جزء من آية من آيات القرآن للحث على العنف وتعمد إغفال باقي الآية. فعلى سبيل المثال لم أزل أتذكر كيف كانت الجماعات الإسلامية تنشر معنى “وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً” حتى يحفزوننا على قتال ومحاربة غير المسلمين بصورة عامة دون أن يذكروا لنا باقي الآية ألا وهو “كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً”.

 

والفارق في المعنى كبير لأن الآية لا تدعوا لقتال غير المسلمين كما علمونا فهي كانت تتكلم عمن بدأوا بالقتال والعدوان كما جاء في الآية الكريمة” وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا” (سورة البقرة 190).

ثالثا: طمس آيات السلام في الخطاب الديني

 

كان من أبشع جرائم الجماعات المتطرفة هو إغفالهم وطمسهم للعديد من الآيات القرآنية الرائعة الواضحة الداعية للسلام والرحمة. ومن هذه الآيات ما يلي:

 

“ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ” (سورة المؤمنون 95) والآية تعني أن يرد الإنسان على الإساءة بالإحسان!

 

والآية الكريمة “ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا (أي القدرة على الرد على الإساءة بالإحسان) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ” (سورة فصلت 34). والآية ” وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ” (البقرة 190).

رابعا: الناسخ والمنسوخ

 

كانت أكبر كارثة رأيتها في الجماعات الإسلامية هي إلغاء العمل بآيات القرآن التي تدعو إلى السلام بحجة أنها منسوخة بآيات القتال وكأنهم نسوا قول الله تعالى “ما يبدل القول لدي”!. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن الآية التالية لا قيمة لها عندهم لأنها في نظرهم وكما أشاعوا في المجتمع تم إلغاؤها ونسخها بآيات القتال! “لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” (سورة الممتحنة 9).

خامسا: تقديس كتب التراث وإعطائها منزلة أعلى من القرآن

 

قد لا يخفى على كثيرين أن القرآن كان واضحا في مبدأ عدم الإكراه على الدين “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” (البقرة 256) وعلى حق أي إنسان أن يؤمن أو أن يكفر “فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” (الكهف 29).

 

ولكن قيادات الجماعات الإسلامية لم تكن تتوانى عن التقليل من شأن القرآن في هذا الأمر الهام واستبداله بمفهوم قتل المرتد وقتل تارك الصلاة وضرب النساء لإجبارهن على ارتداء الحجاب وعقوبة المفطرين في رمضان تعزيرا لهم.

 

ولا أقول لهؤلاء الذين استبدلوا “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” بالهمجية والوحشية المذكورة أعلاه إلا قول الله تعال “أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ” وهم ـ أي المتطرفون ـ حقا وصدقا قد أحلوا أقوامهم دار البوار.

 

وما سبق يمثل فقط مجموعة من الوسائل التي استخدمها دعاة العنف والكراهية والتطرف في العقود الماضية ليسفكوا دماء الكثير من البشر وليضللوا الكثير ممن اتبعوهم عن معاني السلام والخير والإنسانية التي أمرنا الله بها. ولقد وصف القرآن لحظة لقاء المضللين بمن اتبعوهم يوم الدين فقال “إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ” (سورة البقرة 166 ـ 167).

زر الذهاب إلى الأعلى