أفلام البيئة: سينما متخصصة أم استشراف لقضايا المستقبل

المهرجان الدولي لفيلم البيئة يمثل مساهمة قيّمة للتعريف بالتحولات المناخية التي باتت تحديا تواجهه دول العالم

النشرة الدولية

العرب – حنان مبروك –

قليلة هي المهرجانات السينمائية التي تهتم بالشأن البيئي في العالم العربي، والمهرجان الدولي لفيلم البيئة الذي انعقد في محافظة القيروان في تونس، واحد منها، وقد انتظمت مؤخرا دورته الثانية عشرة التي استمرت من السابع إلى التاسع من يناير الجاري.

ويمثل هذا المهرجان، الذي يعدّ أول مهرجان مختص في سينما البيئة أسس في العام 2002، مساهمة قيّمة في مجال أفلام البيئة للتعريف بالتحولات المناخية التي باتت رهانا كبيرا وتحديا تواجهه دول العالم جميعها على حدّ السواء، وفيه ملامسة لقضايا تؤرق الشعوب في هذا الواقع المتغير.

وهو مناسبة لمناقشة الأفلام التي تناولت وتتناول هذا المحور من مختلف الجوانب، وذلك “قصد ترسيخ الوعي بالهم المناخي لدى عامة الناس وتوعية المسؤولين عن الشأن البيئي بالعديد من الإشكاليات المتعلقة بهذا القطاع”.

وفي حين وقع الاختيار على أفلام سينمائية من عدة بلدان منها مصر وتونس والبينين والسينغال ومالي والنيجر وفرنسا وسويسرا، إلا أن اللجنة المنظمة للمهرجان اختارت أن يكون فيلم الأرض للمخرج المصري الراحل يوسف شاهين فيلم عرض الافتتاح الرسمي للتظاهرة.

وعن سبب هذا الاختيار، يقول مدير المهرجان عمر النقازي لـ”العرب” إن “فيلم الأرض لم يشارك من قبل في أي مهرجان متخصص في السينما البيئية، رغم أنه فيلم بيئي بامتياز، لذلك اخترنا عرضه خلال هذه الدورة، كما أننا سعينا لإحداث توازن بين نوعية الأفلام المعروضة نظرا لأن هذا الفيلم لمخرج كبير لا تزال أعماله محل احتفاء”.

ويضيف النقازي أن “اللهجة المصرية المألوفة لدى أغلب الشعوب العربية كانت سببا قويا في عرض فيلم الأرض عوضا عن أي فيلم آخر، بالإضافة إلى كونه فيلما يهتم بالأرض بصفتها أصل كل شيء”.

صحيح أن فيلم الأرض (1970) يعدّ أحد الأفلام الرائدة في السينما العربية، ويتصدر وفق تقييم نقاد ومؤرخين قائمة أهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية والعربية، لكن هذا الفيلم بالذات ليوسف شاهين لقي احتفاء على مدى عقود ومازال يحتل من حين إلى آخر حيزا كبيرا في المهرجانات العربية. وكأن الوقت لم يحن بعد لتلتفت إدارات المهرجانات إلى أفلام أخرى حديثة كانت أو قديمة، بحثت في المعضلات البيئية وجعلت من الوضع المعيشي مسألة فلسفية تتناولها بالطرح والتحليل والاستشراف، ومن تلك الأفلام والذي يعدّ واحدا من أهمها، فيلم الظامئون العراقي، الذي يعتبر تحفة سينمائية خالدة ما تنفك الأيام تجسده في واقع العراق المعيش، وتجعل منه فيلما صالحا لكل زمان ومكان وخصوصا زماننا هذا.

وعن هذا الفيلم يقول النقازي لـ”العرب” “شاهدت هذا الفيلم مرات كثيرة وهو بالفعل عمل سينمائي يستشرف الواقع الذي يهدد ليس العراق فقط وإنما المنطقة بأكملها، لكننا لم نقم ببرمجته لصعوبة اللهجة العراقية”.

ولأن “السينما قادرة عن طريق الصوت والصورة، على إيصال رسالة بيئية قوية، وبإمكان الكاميرا أن تكون صوت الطبيعة القادر على رصد التحولات البيئية والمناخية”، وفق النقازي، فإن الوضع البيئي المتغير يفرض علينا جميعا تغيير ما نشاهده من حين لآخر والتعريف بالقضايا المنسية والمتجاهلة إعلاميا وسينمائيا في عدد من الدول العربية وألا نكتفي بالاهتمام بقضايا الدول العربية الكبرى.

لكنه أكد لـ”العرب” “أن أفلام البيئة لا تزال نادرة مقارنة بغيرها من الأنماط السينمائية، ففي 12 دورة من المهرجان لم يعرض سوى 12 فيلما جديدا”، وهو عدد قليل جدا يرجعه النقازي حسب قوله “إلى تقاعس المؤسسات الرسمية والخاصة عن تمويل هذا النوع من السينما الذي يستوجب تكاليف باهظة، واختيار المنتجين الاهتمام بالإنتاج والجمالية وليس بالقضايا الراهنة ودراستها بعمق.. نحن باختصار ليست لدينا ثقافة الإنتاج السينمائي البيئي”.

ويعدّ فيلم الظامئون العراقي كأغلب الأفلام السينمائية العراقية منتجا تتجاهله أغلب المهرجانات العربية، رغم أنه يطرح إشكالا يعيشه العراق وتمتد تداعياته إلى كامل المنطقة المجاورة له.

إنه فيلم للمخرج العراقي محمد شكري جميل الذي يمثّل علامة فارقة في تاريخ السينما العراقية. وهو مأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتب العراقي عبدالرزاق المطلبي، وعرض لأول مرة في العام 1972. وفيه استنطاق للواقع في بعديه السياسي والاجتماعي بناء على قصة قرية عراقية تعاني من الجفاف وتدهور الحياة الإنسانية فيها بسبب انقطاع الماء عنها.

والفيلم من تمثيل خليل شوقي، فوزية عارف، سعدي يونس، سلمان الجوهر، ناهدة الرماح، مي شوقي، سامي قفطان وطالب الفراتي.

ويحكي الفيلم قصة قرية عراقية واقعة أسفل نهر الفرات تعاني العطش، فيحاول أبناؤها البحث عن الماء حتى يعثروا عليه، وتلتحم الشخصيات حول الشيخ زايد الراضى، وفيما يفكر أغلب أهل المنطقة في الهجرة إلى المدن، يتشبث الشيخ زايد بأمله في حفر البئر والعثور على الماء، ويحاول مرة تلو الأخرى حتى ينجح.

وبالتوازي مع المشكلة البيئية، يطرح الفيلم الصراعات العشائرية ومشاكل لا يزال العراق يعاني منها، ومن بينها مسألة الهجرة. ومنذ عقود، وبينما يصر عراقيون على البقاء ومقاومة الظروف السياسية والاقتصادية والبيئية آملين في التمكن ذات يوم من تحسين الأوضاع المعيشة في وطنهم، لا يزال الكثير منهم اليوم يهاجر ويحلم بالهجرة ويدفع من أجلها الغالي والنفيس.

ويعتبر فيلم البيئة صوت الطبيعة والحياة، وبإمكان الرسالة البيئية القوية أن تدفع الناس إلى تغيير عاداتهم وتصرّفاتهم وإلى الانخراط في العمل الاجتماعي للمساهمة في التغيير داخل المجتمع. كما تحوّل الجمهور إلى قوّة ضاغطة لدفع المسؤولين إلى اعتماد خطط وإجراءات تحمي البيئة وتضمن التوازن لتحقيق التنمية المطلوبة.

لكن في حال العراق وبعد خمسة عقود لم تبق المسألة محدودة في مستوى قرى أسفل الفرات، بل تطور الأمر وأصبح الجميع ظامئين، فالعراق دولة مصبّ النهر صارت رهينة لتجاوزات تركيا التي ينبع “الفرات” من أراضيها، وجرّاء بنائها العشرات من السدود على نهري الفرات ودجلة، تراجعت حصة العراق من النهرين بنسبة 80 في المئة، وأدت إلى خروج مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية عن الخدمة مما يهدد سبل معيشة نسبة كبيرة من العراقيين.

وفيما تعمل أغلب أفلام البيئة على مراقبة الأحداث وطرح المسائل الحياتية لبعض الكائنات الحيوانية والنباتية، مكتفية بفرض نفسها كنوع سينمائي متخصص في البيئة، كان المخرج العراقي جميل سبّاقا في العمل على فيلم بيئي يستشرف المستقبل ويتكلم عن مأساة تتفاقم كل يوم في بلاد الرافدين.

“دورو مداير بيوتكم تراها مليانة ماي”، هكذا بدأ فيلم الظامئون بنداء خفي مجهول يدعو العراقيين للبحث حول بيوتهم عن المياه، وهاهم بعد نصف قرن يحتاجون فعلا أن يدوروا حول أراضيهم ليحرروا حصتهم من المياه كي لا تظل حياتهم وحياة أراضيهم رهينة بأيدي “الجيران”.

زر الذهاب إلى الأعلى