إدارة الأزمة بدلا من حلها
طوني فرنسيس

حصيلة زيارات المسؤولين الأميركيين إلى فلسطين

النشرة الدولية –

لا بشائر في الأفق لتسوية فلسطينية – إسرائيلية، ولا إشارات إلى احتمال عودة المفاوضات الجدية بين الجانبين، وما كان يسمى بـ “عملية السلام” يبدو أنه بات بعيداً بُعد الوقائع عن أحلام المتفائلين.

زادت نسبة التوتر في إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة بعد عودة الائتلاف اليميني بزعامة بنيامين نتنياهو إلى الحكم وإعلان رموزه المتطرفة العزم على مواصلة سياسة القمع والاستيطان وإجراء تعديلات على النظام القضائي تلغي الاستقلالية النسبية للمحكمة العليا، الحاجز الأخير أمام إمساك السلطة السياسية بالأمن والقضاء.

وفي المناخ السياسي الذي يزداد توتراً صار القتل سياسة معتمدة في مخيمات جنين ونابلس، ولجأ شبان فلسطينيون إلى ردود أفعال وهجمات موجعة، وتصاعدت مجدداً المخاوف الإسرائيلية من انتفاضة جديدة خلال شهر رمضان المقبل تحركها أعمال القمع والاستيطان والاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى والأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية.

لم يكن هدف الحضور الأميركي السياسي والأمني الكثيف إلى تل أبيب ورام الله خلال الأسبوعين الأخيرين نزع فتيل الانفجار عبر الانخراط في بحث جدي عن السلام، بل كان “اتخاذ خطوات للتخفيف من حدة التصعيد ووقف العنف وتقليل التوترات”، كما قال صراحة وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن.

وسبق مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان بلينكن في الحضور إلى إسرائيل والضفة، ولحقه في زيارة شبه سرية مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز، ولم يقدم المسؤولون الثلاثة مقترحات غير التهدئة لصراع مستمر منذ نحو قرن.

وبحسب موقع “إكسيوس” الأميركي طالب بلينكن الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتنفيذ خطة أمنية لإعادة السيطرة على جنين ونابلس، وصاغ هذه الخطة المنسق الأمني الأميركي في القدس الجنرال مايكل فينزل، وتشمل “تدريب قوة فلسطينية خاصة يتم نشرها في مناطق شمال الضفة لمواجهة المسلحين الفلسطينيين”.

ورحبت إسرائيل بالخطة الأميركية، وكان طبيعياً أن تتحفظ عليها السلطة الفلسطينية، فالاقتراح لا يلزم الإسرائيليين بأي شيء ومن ذلك التعهد بتقليص الهجمات.

وبحسب مسؤول فلسطيني “لا يمكننا العمل في النهار بينما يقتل الجيش الإسرائيلي الناس ليلاً”، في وقت لم تتم ملامسة القضية في جوهرها “جراء عدم إحراز أي تقدم يذكر لحل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني بما في ذلك إطلاق عملية سياسية”.

في الواقع لم يكن ذلك بين اهتمامات إدارة الرئيس جو بايدن لدى إرسالها مسؤوليها إلى المنطقة، وربما كان في رأس جدول اهتماماتها ضبط سلوك الحكومة الإسرائيلية الجديدة في وضع دولي صعب، والبحث عن هدنة مع الفلسطينيين تخدم الهدف الأول.

وفي إسرائيل فهموا الأمر وقال شاي هارتسفي في “معاريف”، “أنصتوا جيداً إلى رسائل الإدارة الأميركية”، فالسياسة الإسرائيلية تجاه إدارة بايدن يجب “أن تقوم على أساس ألا بديل عن الحلف الاستراتيجي”، وإذا كان نتنياهو وضع أولوياته وهي التهديد الإيراني وتوسيع ’اتفاقات أبراهام‘ فإن شرط تحقيق ذلك هو التعاون العميق من جانب الولايات المتحدة”.

رسائل الإدارة الأميركية كانت واضحة، فالمسؤولون الأميركيون الثلاثة الذين زاروا تل أبيب طالبوا نتنياهو بأن يختار بين مسارين، إما توسعة “اتفاقات أبراهام” مشروطة بتهدئة في فلسطين، وإما الاستجابة لمطالب اليمين وتفجر الوضع.

وتشرح صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن بلينكن وسوليفان وبيرنز سعوا إلى صفقة شاملة مع رئيس الحكومة الإسرائيلية من خلال اقتراح يشمل قضايا داخلية وخارجية، ففي مقابل تعاون أميركي في موضوعي إيران وتوسيع علاقات السلام مع العالم العربي على نتنياهو العمل للتراجع عن تعهداته وتعهدات شركائه الانتخابية، فيهدئ الوضع في الأراضي المحتلة ويحافظ على الوضع القائم في المسجد الأقصى ويعزز السلطة الفلسطينية ويلجم المستوطنات.

وترى “يديعوت أحرونوت” أن ما طرحه الأميركيون عبارة عن مجموعة تفاهمات سرية وشبه سرية وليست احتفالية مثل “صفقة القرن” التي أعلنها الرئيس دونالد ترمب، لكنها عملية سياسية لها انعكاساتها على الحلبة الإسرائيلية الداخلية.

وتنطلق الرؤية الأميركية من مبادئ جرت بلورتها أخيراً، أولها أنه تم تسجيل تقارب كبير بين إسرائيل وأميركا خلال الأشهر الأخيرة في شأن إيران، وقد جعل تقديم الإيرانيين الطائرات المسيّرة لروسيا منهم طرفاً في حرب أوكرانيا، وهي قضية إجماع في الولايات المتحدة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فروسيا بقيادة فلاديمير بوتين هي العدو بنظرهم مثلما أن علي خامنئي هو العدو الذي يقمع الإيرانيين ويجمد المفاوضات النووية، وثانيها أن أميركا تقترح على إسرائيل تعاوناً واسعاً في عمليات سرية داخل إيران وليس حرباً، فإذا تجاوزت إيران العتبة النووية تدرس أميركا خطوات أخرى.

أما ثالثها فإزاء إلحاح نتنياهو وحديثه عن رغبته في تطوير العلاقات مع السعودية وموقفها الواضح من هذا الأمر وتمسكها بمبادرة السلام العربية التي طرحتها وأقرتها قمة الدول العربية في بيروت عام 2002، شدد الأميركيون على ضرورة التهدئة على الجبهة الفلسطينية والمضي في توطيد علاقات الإدارة مع السعودية ومجموعة الدول الخليجية.

ليست العملية السياسية والدفع باتجاه تسوية فلسطينية – إسرائيلية مطروحة على بساط البحث، ولم يكن ذلك هدف الزيارات الأميركية، فمنذ “عملية أوسلو” والانقسام الفلسطيني لم تعد التسوية الشاملة أولوية لدى القوى الفاعلة والمعنية، ومنذ الانتفاضة الأولى ثم الثانية بدأ الأميركيون البحث عن بديل لياسر عرفات، وناقش الرئيس جورج بوش الابن الأمر مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وفي وثائق سرية نشرتها هيئة الإذاعة البريطانية نهاية الشهر الماضي فإن بوش أمر الاستخبارات الأميركية بالبحث عن بديل لعرفات خلال انتفاضة الأقصى عام 2001، ووافق على ضربات إسرائيلية لحرسه الشخصي، وتوقع أن يقوم أرييل شارون رئيس الوزراء حينها بالانسحاب من قطاع غزة مما سيضعف الموقف الفلسطيني، ولم تكن تلك تنبؤات بقدر ما كانت نهجاً سياسياً جعل إسرائيل تعتبر عرفات رجلاً “غير ذي شأن” فتحاصره حتى وفاته، ثم تنسحب من غزة ليتأسس الانقسام الفلسطيني جغرافياً وسياسياً ويستمر، مضيفاً نقاط ضعف إلى الموقف الوطني الفلسطيني وعُقداً أمام البحث عن حلول سلمية.

جاء المسؤولون الأميركيون إلى إسرائيل والسلطة الفلسطينية محملين بإرث لم يتبدل من النظرة إلى جوهر الموقف السابق، وكرروا موضوع الدولتين لكن ليس الآن، فاللحظة هي لحظة ترتيب أولويات الصراع الدولي وموجباته الإقليمية، أما المشكلة الفلسطينية فالأجدى إدارتها بدلاً من حلها، وهذه على أي حال نصيحة بلير لجورج بوش قبل 20 عاماً.

زر الذهاب إلى الأعلى