سورج شالاندون يواجه والده بقسوة بعد رحيله

"مهنة الأب" رواية استبداد الأبوة وقسوتها وعنفها وأمراضها النفسيّة

النشرة الدولية –

اندبندنت عربية – كاتيا الطويل –

رواية “مهنة الأب” للكاتب الفرنسيّ سورج شالاندون (Sorj Chalandon, Profession du père, éditions Grasset, 2015) صدرت ترجمتها العربيّة حديثًا عن دار مسكلياني، وقد عمل على ترجمة رواية شالاندون السابعة كلّ من إيناس العبّاسي ووليد أحمد الفرشيشي. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا النصّ تمّ تحويله إلى فيلم سينما فرنسيّ سنة 2021 وتمّ تصويره في مدينة ليون الفرنسيّة، وهي ثالث أكبر مدينة من حيث السكّان بعد باريس ومارسيليا، والتي يُظنُّ أنّها المدينة التي وقعت فيها أحداث السرد.

وشالاندون المولود في تونس العاصمة سنة 1952 معروف بكتاباته الصحافيّة منذ عام 1973 حتى عام 2007 في جريدة “ليبيراسيون” الفرنسيّة،  وقد ذاع صيته لتغطيته الحروب والأزمات الدوليّة ومن بينها مجزرة حماه التي يُعتبر أوّل الصحافيّين الغربيّين الذين نقلوا حقيقة ما حصل فيها. اشتهر شالاندون كذلك بنقله أحداث الحرب اللبنانيّة بين 1981 و1987. ويقول شالاندون عقب تغطيته لمجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان (سبتمبر/ أيلول 1982) إنّه لم يتخطّ يومًا أحداث هذا اليوم المريع الذي اضطرّ فيه إلى نقل الأحداث الدمويّة بموضوعيّة محايدة، تفرضها أصول العمل الصحافيّ، من دون أن يسمح لدموعه ولاضطرابه بأن يظهرا في تقريره. هذه الحادثة بالتحديد دفعت شالاندون إلى كتابة روايته “الجدار الرابع” (Le quatrième mur, éditions Grasset, 2013) ودفعته إلى التمييز بين الكتابة الروائيّة والكتابة الصحافيّة قائلاً في إحدى المقابلات المجراة معه: “كتابة الروايات هي طريقتي في التعبير عن دواخلي وطريقتي في قول “أنا”، هذه الأنا التي لا يمكن أن تظهر في مقالاتي. يتيح لي فنّ الرواية فرصة الغوص في الواقع وليس في الكذب”.

ملامح السيرة الذاتيّة

تنتمي رواية “مهنة الأب” إلى فنّ التخييل الذاتي (autofiction) أي ما هو بين السيرة الذاتيّة والرواية المتخيّلة، فيقع القارئ في هذا النصّ على تشابه وتقاطع بارزين بين شخصيّة الراوي والبطل إميل، وشخصيّة الكاتب سورج شالاندون، مع وجود بعض عناصر المتخيّل. ومن الجدير بالذكر أنّ التخييل الذاتي هو ضرب من ضروب السيرة الذاتيّة التي لا تحترم أحداث الواقع تماماً بل تُدخل فيها بعض المتخيّل. وقد تمّ التفريق بين السيرة الذاتيّة والتخييل الذاتي بالاستناد إلى ميثاق فيليب لوجون الذي فرض فيه على السيرة الذاتيّة أن تتوافق مع الواقع تمام التوافق، وهذا ما لا ينطبق على التخييل الذاتي الذي يخامره شيء من الخيال. ويُعتبر الكاتب والناقد الفرنسيّ سيرج دوبروفسكي أوّل من استعمل لفظ التخييل الذاتي جامعاً فيه بين السيرة الذاتيّة والخيال الروائيّ.

وإذا أقيمت مقارنة بين حياة الكاتب وقصّة الراوي في رواية “مهنة الأب” تبيّنت لنا معالم مشتركة واضحة كلّ الوضوح، مع وجود فروق بسيطة مثل أنّ سورج شالاندون صحافيّ بينما يكبر إميل ليصبح مرمّم لوحات، ولسورج شالاندون شقيق وثلاث بنات بينما إميل البطل ولد وحيد وينجب ابنًا واحدًا فقط عندما يكبر.

عدا عن هذه الفروق الثانويّة يكتشف القارئ أنّ عنف الأب واضطرابه النفسيّ وتوجّع الابن من والده وعجزه أمام أخبار الأب الغريبة والمتشابكة إنّما هي مشترك وواحد. فإميل وسورج شالاندون كلاهما تعرّضا للتعذيب الجسديّ والتعنيف الكلاميّ، كلاهما عاشا طفولة تعيسة بائسة بسبب أب قاسٍ مريض نفسيًّا ومصاب برُهاب الارتياب (paranoïa)، عدا عن غوصه في نسج الأكاذيب والأوهام. ويقول سورج شالاندون عن وثاقة الرباط بين قصّة حياته وبين قصّة بطله: “على غرار إميل، بقيتُ من دون ركيزة في حياتي، من دون أداة توجيه، من دون ذلك النوع من الحبّ الذي يقوّي ويحمي. على غرار إميل، ما زلتُ لا أعلم ما هي مهنة أبي”.

يعيش الكاتب والبطل طفولة تعيسة مؤلمة بسبب الأب المتوهّم العنيف والأم الضعيفة المغيّبة، فيقول سورج شالاندون في إحدى المقابلات المجراة معه إنّه لم يكتب هذا الكتاب إلاّ بعد وفاة والده. وكأنّ موت الأب الجسديّ حرّر الابن وأطلقه من سجن الماضي والذكريات والوجع، كما يقول فرويد  في نظريّاته بأنّ على الابن قتل أبيه لينجو. انتظر سورج شالاندون وفاة الأب ليكتب هو الذي يقول على لسان إميل بطله الصغير البالغ من العمر 12 سنة، في وصف قاسٍ لمشهد العشاء في بيته: “حين جلسنا إلى الطاولة مساءً (…) لم نتبادل الحديث. كان ثمّة وحش وكائنان صامتان”.

أمّ وابن ووحش

تروي “مهنة الأب” قصّة الطفل الصغير إميل وتعود الأحداث بالقارئ إلى الوراء، إلى سنة 1961 حين كان إميل في الثانية عشرة من عمره. ثمّ يرافق السرد معاناة هذا الطفل الوحيد لوالديه والذي يتعرّض لأبشع أنواع التعنيف والضرب والتعذيب على يد أب مريض نفسيًّا ومصاب بالبارانويا أو الارتياب وبلوثة التخيّل والتوهّم. يمارس الأب على ابنه أفظع أنواع الضرب الجسديّ، ويتفنّن في طرق عقابه لأبسط الأمور، فيقول إميل في أحد المقاطع التي تتناول ضرب والده له أنّ والده أجبره على البقاء في سرواله الداخليّ بالبرد طيلة النهار ومنعه من الجلوس أو الاستلقاء لاثنتي عشرة ساعة، فيكتب: “كنتُ قد أمضيتُ النهار كلّه عاري الجذع في سروالي الداخليّ القصير. فجأةً، سحبني من شعري، بعد أن ملأ كفّه بخصلة كبيرة قريبة من صدغي، ومضى بي إلى غرفتهما، وهناك فتح باب “الإصلاحيّة”، أي دولاب ملابسهما الكبير… ثمّ أمرني قائلاً: إركع على ركبتيك!”.

يسرد إميل طفولته من دون أن يحكم على والده ومن دون أن يكفّ عن الخوف منه وطلب رضاه. هذا الأب الذي يروي على مسامع ابنه مغامرات متخيّلة، يتلبّس مهناً كثيرة ومتنوّعة ويوهم ابنه بتاريخ مجيد لا يعرف منه الابن الصحيح ما المتخيّل. إنّ هذا الأب هو تارةً مغنٍّ وتارة أخرى لاعب جودو محترف أو قسّ إنجيليّ أو حتّى جاسوس، وهو في الوقت نفسه صديق للجنرال شارل دو غول ومستشاره، ثمّ يصبح عدوّه العازم على قتله عندما يختار دوغول أن يتخلّى عن “الجزائر الفرنسيّة”. من هنا عنوان الرواية “مهنة الأب” التي هي لغز الأب ولغز السرد ومأزق طفولة الكاتب والراوي كليهما.

يربى إميل في كنف والد متوحّش وأمّ صامتة لا تجرؤ على الكلام ولا الاعتراض ولا الدفاع عن ابنها الذي تراه يُضرب ويُجوَّع ويُترك مسجونًا في خزانة الثياب الصغيرة المعتمة لساعات طويلة.

“مهنة الأب” هي رواية عائلة مفكّكة تعيسة عاجزة عن التفلّت من قبضة الأب العنيف المصاب بمسّ نفسيّ وعقليّ. هي رواية تخييل ذاتيّ واقعيّة ومؤلمة نقل عبرها سورج شالاندون الصحافيّ والكاتب الفرنسيّ الطفولة المعذّبة التي عاشها في كنف أب مستبدّ ومريض ومدمّر، يتسلّط على ابنه ويتحكّم به بحسب أهوائه، ويمنع الأم من التدخّل ويحوّلها إلى مجرّد شخصيّة خائفة رعديد صامتة، تقف متفرّجة على ابنها الذي لا يعرف كيف يدافع عن نفسه بعد أمام هذا الكمّ الهائل من الغضب والعنف.

 

زر الذهاب إلى الأعلى